على ضفاف الروح (ج2) ذة. لطيفة أسير

علّمني رسول الله..!

من يتنفّس عبير سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويتفيّأ ظلالها الوارفة، يوقنُ أن الحبّ كان ركنا ركينا في كل علاقات النبي صلى الله عليه وسلم، بدءًا بعلاقته بالله تعالى، وانتهاء بعلاقاته العائلية الخاصة أو المجتمعية العامّة. بيْد أنّه لم يُنقل عنه – صلى الله ليه وسلم – خطابات تتغنّى بالحب، ولا قصائد تتغزّل بالمحبوب، ولا نثريات تُذهل القلوب الرقيقة، بل إنّ العبارات الصريحة المفصحة عن مكنونات قلبه، والتي نقلتها كتب الحديث والسيرة، شكّلت جزءا يسيرا من منظومة الحبّ في قلب النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم، أما باقي الأجزاء فكانت سلوكا ومعاملة ترجمت خوالج هذا القلب الذي تتابع نبضه بالحب إلى آخر رمق في حياته.

في علاقته بالله عز وجل تجلى الحب في أبهى صوره، فكان إذعانُه لله حبا.. وانقياده إليه حبا.. وجهاده فيه حبا.. وتضرعه بين يديه حبا.. وغيرته على محارمه حبا.. ونشر دينه بين خلقه حبا.. ووقوفه بين يديه حتى تتورم قدماه حبّا.. وصبره وتحمله للأذى حبّا (إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي)، منتهى الحب أن تشعر بحلاوة التضحية لأجل المحبوب والخوف من غضبه وسخطه سبحانه، وهذا لا يتأتّى إلا لمن عرف قدر هذا المحبوب العظيم، قال الإمام الغزالي -رحمه الله- في كتابه إحياء علوم الدين “318/4″ المحبة ثمرة المعرفة تنعدم بانعدامها وتضعف بضعفها وتقوى بقوتها”.

وفي علاقته صلى الله عليه وسلم بأهله تُبصر كل تجليات الحب والمودة بينه وبين زوجاته وأولاده، لم ينقل عنه أنه قال لزوجاته أحاديث غرامية ولا حدّثت نساؤه بنثريات ولا قصائد في الحبّ والهيام- إلا ما نذر -كما ورد عن أمنا عائشة -رضي الله عنها- في حديث أم زرع حيث قال لها صلى الله عليه وسلم في معرض إعرابه عن حبه لها وتمسكه بها “كنت لك كأبي زرع في الألفة والوفاق لا في الفرقة والخلاء”، فقالت عائشة: “يا رسول الله بل أنت خير لي من أبي زرع” (بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد” للقاضي عياض ص.11-12).

لكنّك كنت تبصر كل تجليات الحبّ في تعامله معهن: فحرصه على تعليمهن أمور دينهن حب.. واعترافه بفضل أمنا خديجة حب.. واستغفاره لها بعد موتها حب.. ووفاؤه لها بعد وفاتها حب.. وتسابقه مع أمنا عائشة حب.. وملاطفته لها حب.. واحترام غيرتهن من بعض تقدير لمعنى الحب.. إحساسهن بالأمان وهنّ في كنفه أعظم تجليات هذا الحب.

فالمدرسة النبوية أعطت الدروس العظام في الحب الشرعي الذي يبني الروح ولا يهدمها، يأسرها أسرا رقيقا يمتلك معه المحبوب أبهى صور الحرية والانطلاق في الحياة. حب يحمي من المخاطر ويذود عن المحبوب ويصونه ويأبى أن يدنّسه.. حب يجعلك تتمنى لو كنت ذرة من ذراته التي تسري في كيان أهله، فتعيش بعده دهرا لتحكي للناس عن معنى (أن تحب)، ومعنى أن تذوب في الآخر فعلا لا قولا.

الحب أمان.. مسؤولية.. حماية.. تآزر في الملمّات.. مشاركة في الأفراح.. غذاء العلاقات الإنسانية الجادة والصادقة والمثمرة، وليس عبارات جوفاء آسرة تسرّ القارئين كما أشاع ذلك أرباب الكلِم قديما وحديثا.

الحبّ أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.. التفاف روحين أو أرواح في كيان واحد يشدّ بعضه بعضا.. الحبّ دفءٌ روحانيّ جميل نفتقد الإحساس به في كل علاقاتنا الإنسانية التي تجمّدت أوصالها من صقيع المواقف الباردة!

 

 

 

تمنّيْتُ أنْ أحبّكَ يا أبي!

كلّما همّ بالخروج تهلّلت أسارير الصّبْية، وعَمّ البيتَ السرورُ. ستتنفّسُ قلوبهم الصغيرة الصُّعداء، وترتاح نفوسهم من هذا الذي يجثُم عليها ويسمونه قسرًا “أبا”.

كم كان مزهواً بجبروته، معتزّا ببسْطة جسمه، مغروراً بعلُو صوته، يتلذّذُ وهو يرى فرائسها ترتعد من هيبته، يتمايل طرباً وهو يقرأ الرّهبة في عيون صغاره، يعلو محيّاه الفخر حين يتقمّص دور الآمر الناهي في البيت، فلا صغير يُجارِيه، ولا كبير يُدانيه.

توقّعَ كل شيءٍ إلا أن يلازم هذا الفراش اللّعين، لَم يخطر بباله يوماً أن تتهاوى قوته، وتتداعى أركان جبروته فيغدو أسيرا لهذا العدو اللّدود الذي يسمونه “عجزا”.

الآن الكلُّ يصول ويجول بِحُرية، دماء الحياة سرًت مجددًا في هذا البيت الكئيب، بات يرى ضحكاتٍ لا عهد له بها، يبصر بعينيه المتعبتين تجمعات كانت محظورة إلى عهدٍ قريب. صار يستجدي بنظراته عطف من حوله، فلا كبيرٌ أشفق عليه، ولا صغيرٌ رأفَ لحاله.. سمع مرة أحد أبنائه يخاطبه :

علّمُونا في المدرسة أن نحترم آباءنا فَهم سبب وجودنا في الحياة بعد الله تعالى، علمونا أن نطيعهم لأنهم رمز الحنان وملاذ الأبناء الآمن حين تخنقهم دوامة الحياة. لكني يا أبي لم أشعر بكل ذلك وأنا تحت إمْرتك، كنتَ كالضابط الذي يحرس سجناءه، لم نشعر معك بالحب ولا الحنان ولا الأمان، حاولت مرارًا أن أُعلِّم قلبي أن يحبك.. لكنه أبَى، فالحب سلطانٌ رحيمٌ يغزو القلوب بلا استئذانٍ، جنوده الرحمة ولين الكلام وطِيبُ الفِعال. وأنت يا أبي تجرّدتَ من كل ذلك، كلماتك اليسيرة التي ما فتِئْتَ تردّدُها علينا مازالت تطرق أذني (ماذا تفعل يا كلب) (أطفئ السراج يا وغد) (اسْكت يا…). كانت كلماتك رصاصات تخترق قلوبنا فتدمّر فيها كل خلايا التعاطف معك، كنتُ دوما أخشى أن يُباغِتك الموت فلا أذرف عليك دمعًا، فأُتّهم بين الناس بالعقوق.. تمنيتُ أن يغير الله من حالك حتى أحبك، فأنت أبي ويجب أن أحبك، لكنك للأسف لم تدفعني لهذا الحب، بل كنت تزجرني عنه في كل حَلِّك وتَرحالك.

كانت كلمات ابنه خناجر تزيد جسمه الكسيح ألمًا، تمنى لو أنّ يدَ المنون سبقت قبل أن تغتاله كلماتُ ابنه المكلوم.. تركها هذه المرة تنهمر وهو الذي ما ذرفها يوما حتى في أحلك الظروف.. مشهد لم يألفه مَن بالبيت.. كاد أن يحرك المشاعر الجامدة لولا أنه أتى متأخراً بعشرات السنين!!

 

 

قبل فوات الأوان!!

بعد وفاة هيا السياري في حادثة سير مفجعة، دخل زوجها الشيخ الأديب سلمان العودة إلى حسابها بتويتر، وعرض فيديو على مواقع التواصل يؤرخ لانطباعه حينها، ومدى تأثره بما تركته على صفحتها من منشورات، وكأنه يقرأها لأول مرة. وهذا يؤكد أنّا كثيرا ما نغفل عن قراءة رسائل أقرب الناس إلينا، وكأنها غير موجهة إلينا، نتجاهلها أحيانا، ننقب عن مبررات واهية لتمريرها سريعا، وقد نسخر من بعض المشاعر التي نراها ساذجة وغبية. لكن حين تغيب أرواح من نحبهم نعيد قراءة رسائلهم بطريقة صحيحة لكن بعد فوات الأوان. نعض أنامل الوجع من الغيظ، نئِنّ في صمت وكلنا أمل في لحظة حياة جديدة نصحح فيها المسار.

يقول الأديب البليغ الشيخ الطنطاوي رحمه الله: تمسكوا بأحبتكم جيداً، وعبروا لهم عن حبكم، واغفروا زلاتهم فقد ترحلون أو يرحلون يوماً وفي القَلب لهم حديث وشوق واحذروا أن تخيطوا جراحكم قبل تنظيفها من الداخل ناقشوا، برروا، اشرحوا، اعترفوا. فالحياة قصيرة جداً لا تستحق الحقد، الحسد، البُغض، قطع الرحم، غداً سنكون ذكرىَ فقط والموت لا يستأذن.. ابتسموا وسامحوا من أساء إليكم.

 

أنين!

بطيئة سويعات الأيام حين يخالطها السقم، كئيبة لحظاتها وقد امتصت رحيق كل الابتسامات، لا صوت يعلو على صوت الألم، لا رنّة تُعزف غير رنّات “الآه” الصامتة، تستنسخ الأيام ذاتها، ويعلن الروتين سطوته على المكان والزمان. وتفقد الذاكرة كثيرا من ملفاتها، يقول الشيخ الطنطاوي رحمه الله في كتابه الجميل “من حديث النفس”: (أنساني المرض كل شيء، حتى ما أذكر أني كنت يوما من الأيام أمشي وآكل وأشرب وأقرأ وأكتب وأمارس نوعا من الرياضة). لكن يبقى الأمل في الله، والثقة في قضائه وقدره بلسمًا يضمد كل الجراح، ويسكن كل الآهات، ويعِد بغدٍ تشرق شمسه ولو بعد حين.

يقول الشيخ الطنطاوي رحمه الله: لولا الرجاء لمات المريض من وهمه قبل أن يميته المرض، ولقتل الجندي في الحرب من خوفه قبل أن يقتله العدو، ولولا الرجاء ما كانت الحياة.

 

 

العزلة

حين تختار العزلة وتنأى بنفسك عن أعين المتطفلين، باحثا عن هدوء ينجيك من صخب الاختلاط، قد تجدُ بعض الراحة ابتداءً، لكن سرعان ما تشعر بالملل يدبّ في أوصالك، وكأنك في جزيرة نائية لم تطأها قدم بشر، فلا تجد بُدّا من معاودة الكَرّة والانغماس مجددا في هذه اللُّجة وإنْ على مضض، وهذا يؤكد أن الاختلاط بالناس وإن كان مجلبة للألم أحيانا، إلا أنه يبقى ضرورة إنسانية. ولهذا حث الرسول صلى الله عليه وسلم على مخالطةِ الناس بعضهم بعضًا فقال: (الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ). صححه الألباني في صحيح الترمذي (2035).

 

 

شيخوخة مبكرة

كمْ هو أليمٌ أن تشيخَ الأرواح قبل الأبدان، وتنتظر نهاية المطاف قبل الأوان. هكذا صارت حياة الكثير من شبابنا اليوم، يتنفسون الحياة بشق الأنفس، ويبتلعون أيامهم على مضضِ، كل شيء فقد متعته ومصداقيته في ظل هذه الأجواء الكئيبة والمحبطة التي نحياها، الكل صار مستسلمًا لرحى الزمن يستسيغ سحقها له دون مقاومة. بل صارت كل اللذة في الموت، وكأنّ الوزير المهلّبي أفصح عن لسان القوم حين قال قديما:

ألا مـوتٌ يُـباعُ فأشتـريه***فهذا العيشُ ما لا خَيرَ فيهِ

ألا موتٌ لذيذُ الطعمِ يأتي***يُخَلِّصَنِي من العيشِ الكَريهِ

إذا أبصرتُ قبراً مِن بعـيدٍ***وددتُ لو أنني مما يليهِ

ألا رَحِمَ المهيمنُ نَفْسَ حُرٍ***تصدَّقَ بالوفاةِ على أخيهِ!

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *