إذا كان الغرب يؤمن بالاختلاف حقا وصدقا، فليتعامل مع المختلف بندية ومساواة، لا بتعال وإقصاء، وليستعمل الحوار عوض السلاح.
ومن يجول بفكره في التاريخ الغربي، يرى بوضوح أن الشق الثاني من المعادلة هو الذي كان منهجه، فمنذ بربرية اليونان، وغطرسة الرومان، ووحشية الصليبيين، وهمجية الاستخراب، ولاإنسانية الإمبريالية الأولى والثانية، لم نر من إيمان الغرب بالاختلاف إلا اختلافه هو، هذا الاختلاف الذي لا يعترف للآخر باختلافه.
منذ العهد اليوناني والغرب يتحدث عن العقلانية، وفي كل مرة يعتبر نفسه عقلانيا وحضاريا، والآخر خرافيا ومتوحشا. فمن اللوغوس اليوناني إلى عقلانية الأنوار إلى الحداثة، يبقى الغرب هو الذات والأنا، والآخر هو الموضوع المُتَحَكّمُ فيه، والقابل لأن يكون شيئا آخر غير ذاته هو، هذا الشيء الآخر الذي لن يكون سوى الغرب مشوها، باسم الإنسانية والكونية والعولمة.
متى يركز الغرب على الاختلاف، ويكثر من الدندنة حوله؟
لا يفعل الغرب ذلك، عندما يحس بأنه السيد المطاع، وأن فكره وثقافته وحضارته برمتها هي السائدة والمهيمنة، بل يلجأ إلى الاختلاف ويحتمي به ويتخذه سلاحا ضد الأعداء، عندما يحس بالخطر يتهدده، أو عندما تعن له الفرصة لتمزيق هوية الأخر، وبعث اختلاف في مكوناتها، فهو لا يعترف باختلاف الأخر إلا للقضاء عليه هَوياتياً قصد التماهي معه هو، أو بتعبير آخر كي يصير الآخر هو “أناه”.
ومن التجريد إلى المحسوس والملموس، أقول على سبيل المثال، وإلا فالأمثلة لا حصر لها: أن تكون غير مسلم، فهذا داخل في إطار الاختلاف ولا غبار عليه، وأما أن تختار أن تكون غير ديمقراطي(1)، فهنا تكون الحقيقة مطلقة، والوثوقية مثبتة، والمعيارية جاهزة، ليجهزوا على وجودك المعنوي، وربما المادي بشتى النعوت “القدحية”، في سياقهم، من نعت بالإرهاب والرجعية والتخلف والأصولية.. وهلم جرا.
وكما هو ديدن بني علمان وبني حداثة في مجاراة أسيادهم في مطلق ما يفكرون فيه، وما يقولونه، وما يقترفونه، فإنهم مخلصون في بيع عقولهم لهم، مما يجعل من الطبيعي عندهم، أن يروا رفض الديمقراطية مثلا، خروجا عما من شأنه أن يتحمله الاختلاف. أما الشذوذ والردة في السلوك والأخلاق والأقوال والأفكار وسط بيئة مسلمة، فذاك عين الاختلاف.
وثمة مثال آخر يزكي طرحنا لمفهوم الاختلاف كما يفهمه الغرب ومن خلفه عبيده، يتمثل في الأقليات المسلمة التي يعمل الغرب -بكل ما أوتي من قوة- على سلب اختلافها، ودمجها في منظومته الفكرية في أرضه، باسم الاندماج، رغم أنفها، وإلا ففزاعة رهاب الإسلام جاهزة، والعنصريون حليقو الرؤوس على أهبة الاستعداد.
وبالمقابل، إما أن يذكوا النعرات وسط أعراق مندمجة أصلا، منذ مائات السنين وسط المسلمين، أو يخلقوا أقليات، أو أكثريات “مضطهدة” من وحي خيالهم، ويستأجرون في ذلك أقلاما حاقدة، رضعت من لبانهم، فعقت ذاتها الأصيلة لصالح ذات مهجنة مشوهة، ليظهر المشهد وكأنه حقيقة، لا يطالها الشك ولا يستطيع أحد أن يتهمها بالتآمر.
وبعد هذا كله، هل الغرب فعلا يؤمن بالاختلاف؟
وهل يؤمن بأي اختلاف؟
إذا كان الغرب يؤمن بالاختلاف حقا وصدقا، فليتعامل مع المختلف بندية ومساواة، لا بتعال وإقصاء، وليستعمل الحوار عوض السلاح.
ومن يجول بفكره في التاريخ الغربي، يرى بوضوح أن الشق الثاني من المعادلة هو الذي كان منهجه، فمنذ بربرية اليونان، وغطرسة الرومان، ووحشية الصليبيين، وهمجية الاستخراب، ولاإنسانية الإمبريالية الأولى والثانية، لم نر من إيمان الغرب بالاختلاف إلا اختلافه هو، هذا الاختلاف الذي لا يعترف للآخر باختلافه.
ولأن الغرب مختلف إلى النخاع، تراه يُعبِّئ معاهد الدراسات الاستراتيجية، ويجيش الخبراء والجواسيس، ويستنفر علماء الاجتماع وعلماء النفس والسياسيين، ويسمح لنفسه بأن يجعل من سفاراته أوكارا للتجسس على بلداننا حكومات وشعوبا، كلما أحس بالمد الإسلامي يتململ لإجهاضه، وهو القوي المستكبر المهيمن على دواليب القرار العالمي.
فكيف بنا نحن لا نقلق على اختلافنا، ونحن المستضعفون، والغرب يجتاح تفاصيل حياتنا اليومية؟!
كيف لا نخشى من تمزيق ما تبقى من وحدتنا، وهذا النائب الجمهوري في “أمريكا العظمى” يتهم حركة “احتلوا وول ستريت”، لأنهم أعلنوا عن اختلافهم ماليا، بأنهم سيؤدون إلى تقسيم البلاد!
نحن ولو كنا مختلفين عن الغرب، علينا تسمية الأشياء كما يسميها، أما هو فلا عليه ألا يسمي الثورات كذلك، بل يترنح بين تسميتها حراكا أو انتفاضات أو احتجاجات أو مظاهرات أو مجرد أحداث، لأنه عكس بني علمان وبني حداثة، يعي جيدا أن الألفاظ قوالب المعاني، وأن المعاني لها ما يتبعها.
وأهم من التسمية، لمَّا فاجأه الربيع العربي باختلافه، وهو الذي يسطر لنا اختلافا مزيفا يجب ألا نحيد عنه، جن جنونه، واتهم جواسيسه بالعجز عن التنبؤ بهذا الاختلاف الحقيقي، وبعد ذلك استعاد وعيه بمشهد الاختلاف الذي لم يقع في حسبانه، واستيقظ من صدمته، فاستنفر كل أجهزته، لكي لا يدع الاختلاف الذي غرست بوادره الثورات يصل مداه، والجاسوس اليهودي الذي ضُبِط متلبسا في ميدان التحرير إبان الثورة المصرية، لشاهد حي على احترامهم للاختلاف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1- بالمفهوم الفلسفي للديمقراطية، هذا المفهوم الذي لا يقتصر على التداول السلمي للسلطة، وإنما يتعداه إلى مكونات الهوية وعناصر الثقافة.