تطوّر مدارس القراءات:
تطورت هذه المدارس بعد بروز قرائها الكبار مثل القرّاء العشرة ورواتهم المشهورين وأئمة طرقهم المختلفة، وتكوّن حول هذه المباحث تراث ضخم في علم القراءات، تشهد له طبقات القرّاء لابن الجزري(ت833ﻫ) الذي أحصى نحو أربعة آلاف قارئ، كثير منهم لهم مصنّفات في هذا العلم.
وبما أنّ هذا الفنّ يتناول صحّة النّصّ القرآني فإنه من المفترض أن يكون أوسع العلوم الإسلامية انتشارا، لكن الواقع خلاف ذلك، فالفقه وأصوله، والنحو والسيرة النبوية …علوم متداولة ومعلومة لدى جمهور المسلمين، لكن علم القراءات ما زال دولة بين المختصّين لغيابه عن مناهج المدارس وبرامجها عموما، ولاكتفاء النّاس المهتمّين بالتّلقين العملي للقراءات دون معرفة أصولها ورواياتها وطرقها. ثم إنّ ذوي الاختصاص في هذا العلم يركّزون جهودهم على إتقان رواية معيّنة يستظهرون بها القرآن، ويتعللون بترك غيرها مخافة التّشويش على أذهان الطلبة بما لا يحذق فيه إلا المهرة.
وكانت نتيجة هذا الوضع أن نرى العالم الإسلاميّ اليوم قد اكتفى بأربع روايات في القراءات؛ وهي رواية ورش وقالون عن نافع، ورواية حفص عن عاصم، ورواية الدّوري عن أبي عمرو بن العلاء، في حين أنّ طرق الرّوايات وصلت قرابة الألف في كتاب النّشر لابن الجزري. وعَمد بعض نظّار القرّاء، أمام تعدّد الرّوايات وكثرة الطّرق وتشعّبها، إلى انتقاء روايات وطرق بعينها توصل كلّها بالقراءات العشر المتواترة. فقد اختار أبو عمرو الداني(ت444ﻫ) في تيسيره راويين لكل واحد من الأئمّة السّبعة، ثمّ نظم هذا الاختيار أبو محمد القاسم بن فيرّه الشّاطبي الضّرير (ت590ﻫ) في لاميته المشهورة بالشّاطبية.
وأمام هذا الوضع ظهرت حركة نشر نشيطة لكتب القراءات القرآنية، قادتها الجامعات الإسلامية والمؤسّسات التي تعنى بالقرآن، فبدأ تراث هذا الفنّ يقع بين أيدي الدّارسين ويذلّل بعضا من صعوبات بحوثهم.
مراحل تطور علم القراءات:
مرّت القراءات القرآنية بمراحل اصطلح عليها صاحب الكتاب بتسميات مستخلصة من خصوصيات كل مرحلة؛ فكان أوّلها مرحلة الوحي والتّنزيل حيث تلقّى الصّحابة القرآن منجّما عن النبي صلى الله عليه وسلم، تلتها مرحلة التّأسيس والتّأصيل التي بدأت مباشرة بعد استكمال نزول الوحي، حيث جُمع المصحف على عهد أبي بكر وتوحّدت الأمّة على مصحف واحد على عهد عثمان رضي الله عنهما. وامتدّت هذه المرحلة إلى منتصف القرن الثّاني الهجري، وهو عهد أئمّة الأمصار وشيوخهم ورواتهم الأوائل. حينها تأسّست المدارس القرآنية وتأصّلت قواعد أئمتها، وتقرّرت ضوابط الرّواية وجُوّدت أوجه الأداء، وحُرّرت قواعد الرّسم وصيغ الشّكل والضّبط.
أمّا المرحلة الثّالثة فهي مرحلة التّدوين والتّعليل، وامتدّت إلى نهاية القرن الرّابع الهجري؛ وفيها اهتمّ علماء القراءة بجمع الرّوايات والاحتجاج لها وتعليلها وتصنيفها والمقارنة بينها. وبدأت هذه المرحلة في عهد نحّاة القرّاء ومنهم عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي وأبو عمر حفص الدّوري (ت246ﻫ) مؤسّس علم القراءات. وعُرف التّدوين بابن مجاهد، والتّعليل بأبي عليّ الفارسي(ت377ﻫ) وابن جنّي(ت392ﻫ) وأبي جعفر النّحّاس(ت338ﻫ).
ومع بداية القرن الخامس بدأت مرحلة البيان والتّحصيل، فاتّسعت دائرة البحث في القراءات وامتدّت إلى حواضر الغرب الإسلاميّ في القيروان والأندلس، وبرز فيها أعلام في هذا الفنّ؛ منهم مكّي بن أبي طالب (ت437ﻫ)، وأبو العبّاس المهدوي (ت440ﻫ)، وأبو عمرو الدّاني، وأبو الحسين شريح بن محمد الرّعيني (ت539ﻫ)، ونشط تبادل الرّحلات العلمية بين قرّاء المشرق والمغرب، وتشارك الطّرفان في وضع المدوّنات التّحصيلية لعلم القراءات كما في مؤلّفات أبي عمرو الدّاني وأبي القاسم الشّاطبي.
وبدأت في القرن السّابع الهجري آخر مراحل تطوّر هذا العلم، وهي مرحلة التّثبيت والتّكميل؛ وفيها ثبتت قراءات الأئمّة السّبع برواتها وطرقها المعروفة من عهد ابن مجاهد إلى الشّاطبي، واستُكملت مصنّفات ابن الجزري بزيادة ثلاثة أئمّة ليصبحوا عشرا، ثمّ تناول هذا التّكميلُ التّوسّعَ في طرق بعض الأئمّة، وكان للإمام نافع الحظّ الأوفر حيث بحثوا بعمق في جوانب رواياته التي ميّزوا منها عشرا سمّوها “العشر الصّغير”، ونسجوا حولها الكثير من البحوث والدّراسات.