هل يحتاج التعليم الديني (العتيق) بالمغرب إلى تأليف كتاب مدرسي؟ عبد الكريم القلالي

الغرض من هذا الموضوع محاولة إثارة بعض إشكاليات التعليم العتيق، واستدعائها لساحة الاهتمام، وفتحها للحوار وتبادل الآراء؛ للوصول إلى المنهج السليم، لئلا نفر من ذكر الحقيقة بدعوى الغيرة المغشوشة، وغلبة التقاليد الموروثة؛ ولست أدعي بهذا القفز فوق الجميع، بمؤهل ودون مؤهل، ولكنها دعوة لإعادة النظر في إعادة البناء، وتجاوز السلبي الذي ثبت بالتجربة الميدانية سلبيته.

هذا؛ وقد صدر القانون المنظم للتعليم العتيق، 01 ـ13 الصادر في 15 من ذي القعدة 1422هـ/الموافق لـ: 29 يناير2002م، وقامت الوزارة بعد صدور هذا القرار المنظم بإعداد برامج دراسية تتضمن تحديد الكتب والمواد المدرسة بمختلف مستويات هذا التعليم من الابتدائي إلى النهائي؛ سواء ما تعلق من ذلك بمواد علوم الشريعة، أو المواد الأخرى.
وأصبح التعليم العتيق بموجب هذا القانون ينضوي تحت وصاية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. وما تحقق حتى الآن منذ صدور القانون المنظم خطوة على الطريقة ولبنة في البناء، لا يجوز الوقوف عندها بل لابد من استكمال البناء بوضع باقي اللبنات.
ورغم التطور الذي عرفه هذا التعليم إلا أن هناك جوانب عدة ما تزال تعاني تعثرا، ويقتضي الأمر استدعاؤها للساحة؛ سيما ما يتعلق بإدماج الأساتذة ومنح الطلبة وسوى ذلك.
ومن القضايا المثارة ما يتعلق بالكتاب المدرسي، خصوصا مع تزايد عدد المدارس العتيقة التي يفوق عددها 494 مدرسة، وأزيد من 21651، فضلا عن الكتاتيب القرآنية والحفاظ الذين يقدر عددهم أضعاف أضعاف العدد المذكور.
وكم مرة دوَّنَ الأساتذةُ ملاحظاتٍ بشأن بعض ما هو مقرر، ولست أدري ما يفعل بتلك القرارات والملاحظات التي لا نرى لها أثرا في الواقع، ولعلها تغتال قبل أن تصل إلى الجهة المعنية بالحسم والبت فيها أو تتجاهل… أو يفعل بها ما الله به عليم.
والجهة الوصية وإن اعتمدت وضع برنامج بمواد وكتب معينة تسير وفقه المدارس العتيقة؛ فإن الكتب المعتمدة؛ ليست كتبا مستقلة تعد وتؤلف لهذا الغرض، بل يقرر ما تيسر من ذلك؛ من كتب المذهب أو غيره، في مختلف المواد والفنون، وتلك الكتب لاشك أنها تختلف فيما بينها؛ فكم من كتاب مقرر لمستوى معين لا يلائم قدرات التلاميذ المقرر عليهم، ويفوق مفاهيمهم ومداركهم ولا يلائم مرحلتهم؛ ولا يساهم في بناء مرجعيتهم، وتنمية مختلف الملكات والمهارات لديهم، لتأهيلهم لحمل أمانة هذا التعليم وفهم هذا الدين وتبليغه وتنزيله.
كما هو الشأن في الكتاب المقرر في مادة علوم الحديث: “نزهة النظر شرح نخبة الفكر” للحافظ ابن حجر العسقلاني، وهو كتاب مقرر للسنة الثانية إعدادي، وكل من اطلع عليه يدرك أن الكتاب في طريقة تأليفه وصوغ عباراته وبعض إشكالاته يجب أن يوضع لمستوى آخر غير هذا المستوى الذي انتقل من البيقونية وشرحها، لاصطلاحات ابن حجر وعباراته الغامضة.
وتتكرر الشكوى بين الفينة والأخرى من لدن تلاميذ التعليم العتيق من عدة كتب أخرى موضوعة لمستوى لا تناسبه تماما؛ كما هو الأمر بالنسبة لكتاب: “مناهل العرفان في علوم القرآن” لعبد العظيم الزرقاني وهو مقرر للسنة الأولى إعدادي والثانية، ويفوق في مواضيعه وعباراته ذهن الطالب في هذا المستوى، والأدهى من ذلك أن نجد ضمن الكتب المساعدة، كتاب: “الظاهرة القرآنية” لمالك بن نبي، ولست أدري ما ذا سيفهم تلميذ بالإعدادي من كتاب: “الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي”، الذي تغلق بعض المفاهيم والتصورات فيه على المتخصصين في المجال بله المبتدئين فيه.
ونجد التعقيد ذاته الذي تتكرر شكوى التلاميذ منه في الكتاب المقرر في مادة التوحيد: “المختصر المفيد شرح جوهرة التوحيد” وهو كتاب مليء بإشكالات عقدية منها ما يجب تجاوزها، ومنها ما يستعصي على ذهن التلميذ فهمها؛ فيجد الأستاذ نفسه أمام شحن العقول وتفريغ التراث في عقول التلاميذ بصحيحه وسقيمه دون القدرة على الإفادة من هذا التراث وتوظيفه للإجابة على إشكالات الحاضر، والارتماء في أحضاء ما قال المتقدمون وضمان التبرئة لأنفسنا بإحالة أقوالنا عليهم.
والأمر ذاته نجده في مادة: “النحو” التي طالما عده أهل هذا التعليم مادة أساسية، هي للمواد الأخرى بمثابة الجذع لفروع الشجرة، ونجد المقرر في هاته المادة من طرف الوزارة للسنة الأولى إعدادي: “ألفية ابن مالك” بشرح المكودي، وما ذا سيعي تلميذ هذه المرحلة من المكودي وهو في أول عهده بالدراسة؛ حيث يعتبر مجرد الحديث بالعربية البسيطة التي يتحدث بها الأستاذ في القسم بالنسبة له دندنة وطنطنة؛ لسان حاله يقول عنها: “يا أستاذ لا نفقه كثيرا مما تقول، وإنا لنرى أنفسنا ضعافا، ولولا المقرر ما سمعناك، وما هو لنا بملائم ولا علينا بعزيز..”.
وكان الأولى أن يبدأ بكتاب آخر من الكتب المعروفة لدى أهل الفن من الكتب التي تكون كالتمهيد والتوطئة لتأهيل التلميذ مع التعامل مع ألفية ابن مالك وشرحها للمكودي؛ وإذا كان ولابد من وضع ألفية ابن مالك في السنة الأولى إعدادي؛ فحري لو وضع “شرح ابن عقيل” باعتباره مبسطا وهو أخف من شرح المكودي المليء بالألغاز والعبارات الغامضة والضمائر العائدة على: “أبعد أو أقرب مذكور”، ولعل القائل يقول: قد يكون التلميذ درس تلك الممهدات والمقدمات في مرحلة الابتدائي، والجواب: أن عددا لا يستهان به من تلاميذ الإعدادي ولجوا هذا التعليم بحصولهم على شهادة الابتدائي بالتعليم العمومي، أهلهم لذلك حفظهم القرآن الكريم.
وفي المرحلة الثانوية نجد الإشكال ذاته يتكرر؛ كمناهل العرفان في علوم القرآن، المقرر في الأولى والثانية ثانوي؛ فهو وإن اختلفت المواضيع التي تدرس في كل مستوى من المستويات؛ فإنه من الناحية المنهجية والمستوى الذي يسير عليه مؤلفه في تناول مسائل ذلك الفن لا يلائم المرحلة الثانوية.
أما المرحلة النهائية التي يقبل فيها طالب التعليم النهائي العتيق على العالمية، لا نجد هذا الطور أيضا يخلو من خلل على مستوى المنهج وطبيعة المواد المقررة، ومن الطامَّات التي أتى بها المنهج الجديد أيضا في مقرر النهائي العتيق، كتاب: “جمع الجوامع” الذي يكتسب شهرته من تعقيده، ويستهوي الطلبة بألغازه، حتى تنافس بعضهم في صولاته وجولاته لختمه، وقد كان يمكن دراسة نفس المباحث الأصولية الموجودة بكتاب جمع الجوامع في أي كتاب أصولي آخر سهل العبارة جيد التركيب، متنوع المضمون، ومثل هاته المصنفات المعقدة التي دعى كثير من العلماء إلى نجاوزها، تؤدي إلى صرف ذهن الأستاذ والطالب -على حد سواء- عما ينبغي أن يفهم في المادة ويعلم من المضمون إلى تضييع الوقت بضمائره ومقاصده واحترازاته.
ولعل قائلا يقول تعليقا على ما قيل: أين دور الأستاذ في الشرح؛ وبيان ما أشكل من العبارات؟
وهنا يقال: إذا كان الغرض فسخ العبارات وفكها من أجل العبارة، وفهم قول فلان بالتحديد؛ فتلك قضية تستوجب نقاشا آخر، وإن كان المقصود فهم المادة؛ فالأولى وضع كتاب يلائم مستوى الطلبة والتلاميذ؛ يقيهم وأستاذهم عناء تلك العبارات المستغلقة بإحكام وإتقان؛ فالأستاذ إن صرف حيزه الزمني المخصص له في المادة لفك المغلق وتفكيك المركب المعقد؛ فإنه لن يستوفي المقرر قطعا، ولن يفهم التلاميذ المادة؛ بقدر ما يتشتت ذهنهم مع المفردات المغلقة، والكلمات المبهمة، التي ما تزال تستحوذ على حيز هام من حصص بعض الأساذتة المتعلقين بالألفاظ على حساب المعاني.
والكتب المقررة هي هي ذاتها لا تختلف في جميع مدارس التعليم العتيق؛ فهذا التعليم وإن كان يقسم إلى قسمين: تعليم عتيق عمومي تابع بصفة مباشرة للوزارة؛ كما هو حال القرويين في فاس ومسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء، وتعليم عتيق خاص تشرف عليه جمعيات؛ كما هو الشأن بالنسبة لمدرسة الإمام مالك الخاصة للتعليم العتيق بتطوان، والتي تضم الطور الابتدائي والإعدادي والثانوي والجامعي، ومدرسة الإمام الشاطبي بالمدينة ذاتها أيضا، وإن كانت لا تتوفر على جميع المراحل التي تتوفر عليها الأولى؛ فالفرق بين التعليمين: العام، والخاص، في الجهة المشرفة فقط؛ وكلا التعليمين في نهاية المطاف ينضوي تحت لواء وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ويخضع لمنهجها ومقررها.
وأعتقد أن أهل التعليم العتيق عليهم أن يتجاوزوا كثيرا مما يدعى أنه من خصوصياته؛ ككثرة الاسترجاع والحفظ ونوعية بعض المعلومات التي يتم التركيز عليها، الأمر الذي يضيع لنا كثيرا من الأوقات ويعطل عددا من الطاقات، سيما وأن عددا من هاته الطاقات تحاصر بوظائف هامشية تحبسها عن مواصلة السير للوصول إلى المواقع المؤثرة، التي عزف كثير من الطلاب عن الوصول إليها طوعا أو كرها.
وإذا ظل التعليم العتيق على ما هو عليه؛ من الوسائل التقليدية الطاغية عليه من مختلف الجوانب، فإن جيله سينتهي به الزمان إلى عزلة وغربة الزمان.
ويضاف إلى الخلل في المنهج الدراسي والكتاب المقرر، الوسائل المعتمدة، وأساليب التدريس ونظم التقويم، التي لا صلة لغالبها بما يعرفه العصر من تطورات سريعة، والتي يذهب ضحيتها الطالب ويؤدي ثمنها طوال سني عمره، ومراحل حياته.
لذلك أرى أن تصويب هاته الأخطاء التي أشرت إلى بعضها، وإعادة بناء المنهج الدراسي لهذا التعليم؛ بما يتناسب مع معارف ومدارك طلبة هذا التعليم، يعتبر من أولى الخطوات التي على الجهة الوصية على هذا التعليم أن تمنحه كامل العناية.
وخلاصة القول:
أن المطلوب من الوزارة ليس إعداد كتاب خاص لكل مستوى بمباحث وعناصر معينة؛ يعتمد المعلوم بالضرورة من شؤون الدين؛ كما هو حال التعليم العمومي، وإنما إعادة النظر في بعض الكتب المقررة واستبدالها بما هو أجدى وأفيد من كتبنا الزاخرة في تراثنا الإسلامي؛ ذلك أن الدعوة إلى تأليف كتاب مستقل للتعليم العتيق على غرار التعليم العمومي أمر تحفه مخاطر ومبهمات، من شأنها أن تودي بهذا التعليم وتضعف نتائجه، وفي التعليم العمومي العبرة لمن يعتبر بشأن الكتب المقررة وطبيعة وطريقة القضايا المتناولة.
ولابد من استشعار هاته القضايا وغيرها، لتخليص هذا التعليم من الارتجال وإعادة البناء في ضوء الحاجات التي تتطلع إليها الأمة وتتطلبها من خريجي هذا التعليم.
والفرصة سانحة أمام أهله للنظر في مناهجهم ومقرراتهم، وتحريرها من قيود عفى عليها الزمان؛ لأخذ الدور في الحياة علما وعملا.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *