تعتبر جريمة الزنا من الجرائم التي أنكرتها كل الشرائع، وأنكرها العقلاء والراشدون من الناس، كما أنكرها أصحاب المدنية الغربية جهرًا وإن قبلوها سرًا؛ وذلك لما فيها من عدوان على حقوق الأزواج ومن اختلاط للأنساب وحل لروابط الأسرة وقتل لما في قلوب الآباء من عطف وحنان على الأبناء، ورعاية وبذلٍ سخي يبلغ حد التضحية بالراحة والنفس، الأمر الذي لا يكون إلا إذا ملأت عاطفة الأبوة قلوب الآباء؛ ووقع في قلوبهم وقوعًا محققًا أن هؤلاء الأبناء من أصلابهم.
ثم لعل القارئ لا تعجب حين يقرأ الأخبار الواردة إلينا من أمريكا وأوروبا عن آباء قتلوا أولادهم بأيديهم وأتوا على الأسرة كلها في لحظة واحدة دون أن ينبض فيهم شعور بالتردد قبل الجريمة أو الندم بعدها، وذلك شفاء لما في نفوسهم من شكوك في صحة نسب هؤلاء الأبناء إليهم، حتى تحولت هذه الشكوك إلى عواصف من الجنون أفقد هؤلاء الآباء كل شعور إنساني نحو الأبناء المشكوك في نسبهم، وهيهات أن يخلو شعور أوروبي من الشك في نسبة أبنائه إليه؛ مع هذه الإباحية المطلقة للجمع بين النساء والرجال في أي مكان وأي زمان.
فإن أراد الإسلام أن يحارب هذه الجريمة برصد هذه العقوبة الرادعة -الرجم للمحصن، والجلد لغير المحصن- كان ذلك عند أعداء الإسلام تهمة شنيعة يرمونه بها ويحاكمونه عليها ليخرجوه من حدود الإنسانية المتحضرة إلى عالم سكان الأدغال ورعاة الإبل والشياه في الصحاري.
ويقولون: كيف يحكم الإسلام بإهدار آدمية الإنسان حتى يأمر بجلده على مراءى ومسامع من الناس؟
ثم كيف تصل الوحشية في قسوتها إلى أن يُلقى بالإنسان في حفرة ثم تتناوله الأيدي رجماً بالحجارة إلى أن يموت.
هكذا يقولون: (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا).
ولا ننكر أن في شريعة الإسلام حكم الجلد والرجم يقول الله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) النور:2.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة” رواه مسلم.
والنظام الإسلامي كل متكامل لا تفهم جزئياته إلا في نسق واحد.
فإن الإسلام قد حرّم النظر إلى الأجنبيات؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تتبع النظرةَ النظرةَ؛ فإنما لك الأولى وليست لك الثانية” سنن أبي داود؛ وحسنه الألباني. وكذلك أمر النساء ألا يظهرن الزينة إلا للأزواج أو الأقارب من الصلب الذين لا يُخشى منهم فتنة. فقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ)، وقال سبحانه: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ). وأمر أيضاً ألا يختلى رجل بامرأة لا تحل له؛ فقال صلى الله عليه وسلم: “ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما”.
وحرم أيضاً أن يمس الرجل امرأة لا تحل له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لأن يُطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمسّ امرأة لا تحلّ له” رواه الطبراني وصححه الألباني في صحيح الجامع 5045؛ وقبل هذا كله فقد استطاع الإسلام أن يربى الرجل والمرأة على حد سواء على الإيمان بهاته النصوص؛ وعلى وفق ما جاء في قصة ماعز والغامدية.
والإسلام كذلك حض الشباب على إخراج هذه الشهوة في منفذها الشرعي بالزواج. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء” رواه البخاري. أي قاطع للشهوة.
وكذلك رخص للرجل أن يتزوج بامرأة واحدة أو اثنين أو ثلاثة أو أربع مادام يملك النفقة ويستطيع العدل.
وأمر أولياء الأمور أن لا يغالوا في مهور بناتهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير” رواه ابن ماجه. وأمر الأغنياء أن يساعدوا الشباب في نفقات الزواج. وقد قام الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز بتزويج الشباب والفتيات من بيت مال المسلمين.
هذا كله هو بعض ملامح الإسلام في تيسير أمر إخراج هذه الشهوة بطريق مشروع، والحقيقة أن كبيرة الزنا لا تحصل في المجتمع المسلم -الذى تسوده الفضيلة- إلا بعد تدبير عظيم من كلا الطرفين يدل على إجرام كلا الطرفين؛ ولكن مع كل هذا فإن شريعة الإسلام قد وضعت شروطًا من الصعب جدًا توافرها قبل إيقاع العقوبة.
فإن لم تتوفر مجتمعة لا يقام الحد على صاحب هذه الفعلة جلداً كان أو رجماً وهذه هي الشروط:
1 ـ لابد حتى تثبت الجريمة من شهادة أربعة شهود عدول يشهدون بأنهم رأوا من الرجل والمرأة ما يكون بين الرجل وزوجته من اتصال مباشر، الأمر الذى لا يكاد يراه أحدٌ من البشر.
وكأن الشريعة لا ترصد هذه العقوبة على هذه الفعلة بوصفها ولكنها ترصدها على شيوع هذه الفعلة على الملأ من الناس بحيث لا يبغى بين الناس من لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.
2 ـ إن الشريعة الإسلامية تقرر درء الحدود بالشبهات بمعنى أن أي شك في شهادة الشهود يفسر لصالح المتهم فيسقط بذلك الحد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ادرؤوا الحدود بالشبهات” الترمذي والحاكم والبيهقي وابن ماجة. وجاء موقوفا عن عمر: أخرجه ابن أبي شيبة وصحح إسناده الحافظ في التلخيص وكذا قال السخاوي.
3 ـ فرضت الشريعة عقوبة الجلد ثمانين جلدة على من قذف محصنة ثم لم يأت بأربعة يشهدون بأنهم رأوا منها ومن المقذوف بها ما يكون بين الزوج وزوجته قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
4 ـ رغبت الشريعة الإسلامية في التستر على عورات المسلمين وإمساك الألسنة عن الجهر بالفواحش وإن كانت قد وقعت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل جاء يشهد: هلا سترتهما بثوبك؛ يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
وأبعد من هذا كله يتخرص متخرص ويقول:
إن الإسلام يظلم الإنسان ويهدر آدميته حين يأخذ أولئك الذين يأتون الفاحشة على أعين بما يأخذهم به من جلد بالسياط. وفضح بين الملأ من الناس؟
أفلا يسأل هؤلاء المتخرصون أنفسهم ماذا يبقى للإنسان من آدميته وكرامته إذا تركت هذه الفاحشة يغالى بها بعض الآدميين من غير استحياء؛ ثم لا يضرب على أيديهم أحد.
إن إنساناً توفرت له كل هذه الميسرات وتجرأ على الترتيب لهذه الفعلة الشنيعة؛ ثم افتضح حاله حين يراه هذا العدد في هذا الوضع؛ لهو إنسان مفسد يشكل خطراً على المجتمع كله.
والمتحدثون عن حقوق الإنسان يقولون لا بأس من أن يحبس فترة من الزمن ثم يخرج لكى يمارس عمله، ولا يعلمون أن مثل هذا الحبس سوف يمكنه من أن يخالط من هو أجرم منه ليتعلم منه ويعلمه ويخرجان إلى المجتمع بعد أن أصبحا إمامين في الضلال ليضلا الناس وهذا هو المشاهد.
فضلاً عن الذي يترتب على الحد من تكفير لهذا الذنب.
وإن المتتبع لا يجد هذه العقوبة قد نفذت حال تنفيذ العقوبات إلا في أعداد محدودة ولا ضرر في هذا مادام قد وفر الأمن والاستقرار للمجتمع. انظر: حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين؛ بتصرف.