لا يختلف بنو علمان عن أسيادهم الغربيين في نظرتهم لحضارتنا وتراثنا وواقعنا الاجتماعي، خصوصا المرتبط بقيمنا، إذ لا يثيرون إلا الجانب الذي يرونه مظلما من هذا كله.
فالغرب “الرحيم المتسامح العادل الحضاري”، ليس لديه تجاهنا إلا نظرة نمطية يكررها، وتلوكها أجهزة إعلامه، إمعانا في تكريس استعلائه وتفوقه، وتحقيرا للآخر وتنقيصا منه.
فهو مثلا، لا يرى فينا إلا أحزمة الفقر والأمية والجهل والتخلف والاستغلال بأنواعه المختلفة، وإن كان هذا واقعا لا ننكره، ولكن ليس بتلك القتامة المصَوَّرة، فهناك مناطق مضيئة في حياتنا، لن يحلم بها الغرب حتى في منامه، وإن كان من ظلمة تجتاح هذه المنطقة المضيئة فهي من قبل حداثته التي يسوِّقها عبيده من بني جلدتنا، وبإيعاز منه. بل إنه أكثر وعيا بهذا المُضاء منه بالمظلم، لذا يعمل بكل ما أوتي من ترسانة مادية وفكرية على تبديد الأول لصالح الثاني.
ومن الأمثلة المضيئة في حياتنا هذا التضامن الذي ربانا عليه ديننا، ولولاه بعد الله لغرقنا في أتون الأزمة المالية والاقتصادية، كما وقع لليونان التي يئن شعبها تحت وطأتها، ولانضافت جحافل من الفقراء الجدد إلى ما هو موجود بالفعل.
إلا أن هذا التضامن -خصوصا الأسري منه- يعد أحد أهداف منظمات الحداثة والعلمنة، إذ يستهدفون أسه وركنين من أركانه، ألا وهما الزوج والزوجة، الذين وصفهما القرآن الكريم بالنفس الواحدة، وجعل بينهما المودة والرحمة، في حين يود الغرب ومن ورائه تابعوه أن يجعلوهما في تصارع دائم، كأنهما في حرب مقدسة، أو على الأقل في تنافس مستمر، كأنهما في شركة تجارية، لا تعرف للعاطفة أو الوجدان سبيلا. فالتسامح بيننا وبين الآخر من متطلبات الحضارة، أما بين الزوجين فهو هضم لحقوق المرأة، وتمييز ضدها، وتحقير من شأنها.
ومن هذه الأمثلة المضيئة أيضا طاعة الوالدين، وتوقير الشيخ الكبير، والمواساة بين الجيران في الأتراح، والمشاركة في الأفراح، والتماسك الأسري، واحترام المتدينين، وعلى رأسهم أئمة المساجد، على الرغم من جعجعة هنا وهناك، من قبيل أسلحة “المجتمع الذكوري”، و”العنف الأبوي”، و”استقلال المرأة والفتاة”، الذي ينبثق عنه الدعوى إلى الزواج بدون ولي، لأنه -والحمد لله- لازال الشباب لا يستطيعون الزواج بدون والدين، فما بالك بالقوارير!
إن الغرب “الرحيم” لم أعثر له على “وثائقي” يسلط الضوء على وحشيته التي يمارسها ضدنا، منذ الإغريق مرورا بالرومان والحروب الصليبية ومحاكم التفتيش والاستخراب، إلى عصر الديمقراطية المفروضة بقوة السلاح، ولم أعثر له على “وثائقي” يكشف حجم وحقيقة المؤامرة التي يدبرها ضدنا ليل نهار، ليس على المستوى النظري، بل على المستوى الواقعي.
هذه المؤامرة التي أودت وتودي بمئات الآلاف من إخواننا في العقيدة، وتمزق شعوبا وبلدانا، لا لجريرة اقترفتها إلا لأن الله شاء لها أن تحيا مسلمة.
ومن أراد الجدال في هذا الأمر فليمددني بشعوب أو بلدان إسلامية وحَّد بينها الغرب، أو على الأقل ساهم في ذلك.
بل هل ساعد الغرب في تنمية أي شعب خارج نطاق منظومته، بله أن يساعد في تنمية شعب مسلم؟
والنمور الآسيوية شاهدة على ذلك، لأنها كانت مجرد فلتة تطورت في غفلة من الغرب، بدليل أنها أصبحت الآن تؤرق مضجعه.
وبالمقابل، لا الغرب ولا عبيده يتحدثون عن وجهه الآخر بالشكل الذي يروَّج لإيجابياته، أو لسلبيات الآخر المختلف عنه، لأن برامجهم الوثائقية عميت إلا عن تصوير تخلف الآخر وجهله ووحشيته، وفي نفس الوقت انجلى بصرها وانفتحت بصيرتها على الدعاية لمزايا الغرب وتفوقه.
وكشفا للوجه الآخر الذي يعمل المتواطئان السالفان الذكر على إخفائه، أذكر ما توصل إليه صحافي ألماني يدعى “غونتر فالراف”، بعد ما قام ببحث ميداني سري، لأنه دخل ما وراء الخطوط الحمراء التي تواطأ عليها الغرب برمته، وحددها لنفسه على الرغم من تبجحه بحرية الحصول على المعلومة والديمقراطية وحقوق الإنسان، التي لا يمل من استظهارها علينا بكرة وأصيلا.
إن هذه الخطوط الحمراء التي لا تظهر لعبيده، دفعت هذا الصحفي إلى التنكر للقيام بمهمته، وكشف المستور، وفضح “أسرار العمل، وشروطه غير الإنسانية “كما جاء في تقريره المثير، عن شركات نقل البريد السريع، التي وصف عمالها “بالعبيد”، في عصر الحرية الفردية، والحقوق الكونية.
ومن الأدلة التي أوردها “فالراف”، عندما عمل متنكرا أشهرا، في مصنع لإنتاج الخبز، أمام القاضي، قوله: “إنه جرح يده أثناء العمل، وسال دمه على الخبز، لكن العمال خافوا من وقف العمل، واستبعاد الخبز الدامي، خشية أن يفقدوا مواقع عملهم”. وكأنهم في عصورهم [1]الوسطى، وهم في ألمانيا القرن الواحد والعشرين!
كما كشف “فالراف” في مقابلة تلفزيونية أنه عمل لأشهر في إيصال الطرود البريدية الثقيلة إلى أصحابها. ووصف العمل بالشدة قائلا: إنه رياضي ولائق بدنيا رغم سنه، ويشارك في سباق الماراطون في كولون كل مرة، لكنه فشل كما فشل السعاة الشباب في تحمل شدة العمل ونقل الطرود الثقيلة.
ويذكر أن فالراف نشر كتابه الشهير «الحضيض» في الثمانينيات من القرن المنصرم، إذ تنكر كعامل تركي (علي)، وأدى مختلف الأعمال القاسية، من ضمنها التحول إلى «فأر اختبار» في أحد مراكز البحث، بل إنه صبغ نفسه باللون الأسود عام 2010، وقدم نفسه كإفريقي يبحث عن العمل، وكشف كيف كان يفشل كل مرة في إيجاد عمل، وكيف كان الناس يخشون الجلوس قربه في الحافلة الكهربائية، لا لشيء إلا لأنه مختلف عنهم لونا.
وفي مثال آخر عن الوجه الآخر للغرب، أوردت قناة الجزيرة تقريرا عن التداعيات الاجتماعية للأزمة اليونانية، أظهر البؤس الذي أصبح يعيشه الشعب اليوناني بين عشية وضحاها، والغرب عاجز عن الإنقاذ الذي يلوح به في وجهنا، إن طبقنا ديمقراطيته فلسفيا، وحداثته فعليا.
وقد ظهر في التقرير زوج فقد عمله، ويسكن في غرفة واحدة مع ست من أبنائه وزوجه الحامل، واليأس قد بلغ منه مبلغه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت. ولو كانت نفس هذه الصورة عندنا، لبلغت الآفاق، ولعصرت عصرا، ولاستُنبط منها كل ما يبعث على تحقير ذواتنا وتاريخنا وحضارتنا وديننا!
ــــــــــــــــــــــــ
[1] لأن العصور الوسطى لا تذكر، إلا ويذكر التخلف والجهل والظلمات، وهذا ما لا ينطبق على المسلمين في نفس الفترة، لأنهم كانوا يعيشون أوج حضارتهم، وهذا ما لا يشير إليه المتواطئان،لأن الأسياد هم من يحددون تاريخ العالم، والعبيد تبع لهم.