أمتنا وتجليات الاستعمار بين المقنع والسافر عبد المغيث موحد

يا لها من نصيحة غالية أسداها شيخ من شيوخ المخزن زمن الحماية والانتداب الامبريالي الفرنسي لدولة المغرب؛ تلك هي النصيحة التي جاء ذكرها في مقدمة ثنايا كتاب الدكتور المهدي المنجرة (تصفية الاستعمار الثقافي تحدي القرن الواحد والعشرين).
فقد تقدم هذا الشيخ إلى مكتب القائم العام الفرنسي ليهمس له بكمال النهاية وتجاوز عنث نقص البداية قائلا له:
“الآن يمكنكم يا سيدي أن تغادروا بلادنا مع الاحتفاظ بكل ما جئتم من أجله، فقد أوجدتم لنا فرنسيين من بني جلدتنا يستطيعون خدمة أهدافكم الاستعمارية بدون أن تظهروا أنتم في الواجهة”.
وقد لا يعنينا كما لم يعن هذا القائم نصيحة الشيخ في قضية ربطها كسبب تختزل فيه بواعث مغادرة الاستعمار السافر لبلادنا الإسلامية بقدر ما نكون اليوم مطالبين بتبليغ الدلالات الرمزية والإسقاطات والتراكمات الواقعية لهذه المقولة التي تحوي حكمة تاريخية إذا ما قرئت قراءة إيمانية.
فقد تكون كفيلة بكشف تجليات الاستعمار الحداثي المقنع غير السافر ومنه وعبره فضح المأجورين الجدد الذين قهروا وجودنا وحاصروا كياننا وضيقوا الطوق حول رقابنا بشعارات الماسونية؛ من حرية وحداثة ومساواة وحقوق مدنية وحرب نساء، ومصطلحات فضفاضة من قبيل الإنسانية والكونية والأخوة فيهما دون سواهما على الحصر والقصر.
مرادهم الأول ومسعاهم المقدس: النجاح فيما فشل فيه آباؤهم بالكفالة الغربية يوم كانوا يلقنوننا دروسا في المدنية والتحضر ببأس الحديد وكير النار، مراد تجريدنا وسعيا في سلخنا عن أديم درعنا الواقي؛ درع الانتماء إلى حضيرة إسلامنا العظيم.
فقد أدرك المستعمر قديما بالتجربة والمحسوس قصور فعالية دبابته المعربدة وطائراته النفاثة وسلاحه الناري المتطور عن تحقيق هذا السلخ القميء، لكنه لم يستسلم ولم ييأس ولم يهدأ له بال، وهكذا بعدما نجح إلى حد ما في تربية جيل من بني الجلدة على قيمه الغربية ونظمه المارقة في باب الحكامة والحاكمية، ونفخ في “بالونة” نفوسهم الأسفنجية أصباغ الاستغراب ولقطة العبث والفوضى والتحرر الذي يجعل القيم الأخلاقية خصمه الأول وهدف قصفه الأوحد، لاحت له في الأفق إمكانية تسريب قيم لا إسلامية ومحدثات بدعية على أنها من الإسلام بداية، على أن تصبح في مرحلة لاحقة هي الإسلام على الحقيقة.
إسلام معاصر وحداثي يتميز بالوسطية والاعتدال والتسامح.. وتعارف الذوبان في حوجلة توصيات مؤسسة راند وأخواتها العاملة في الحقل ذاته.
إنه الإسلام الذي بات مقبولا هامشه لنا ومسموح لنا أن نتعبد به ربنا إذا ما نحن رُمنا السلامة من إثم الحرب والغنيمة من بر الحداثة والديمقراطية الغربية، إسلام حدثني قلبي عن ربي، إسلام بدون شرائع ولا شعائر، إسلام بغير نصوص، إسلام تتلقى بدائل الرسل من الأقطاب والأبدال والأغواث تعاليمه وتعليماته من الله مباشرة.
إسلام مظاهر جماله وتجليات نفعه ومنفعته لها ضوابط حداثية غير تلك التي يتبناها الإسلام المتطرف إسلام الغلو والإرهاب والاستبداد والاستعباد بعين الحداثة ولسان رواد الهيكلة والتجديد الذين أقعدت سبيل سيرهم وصراط نواياهم أشعة نيون الإعلام والثقافة والفن المدعومة بالمال والسلطة والدعاية والترضي الإقليمي؛ ومباركته المدخونة فانقلبوا على أعقابهم يحجرون الواسع ويحدثون الأخلاط في باب العقيدة والفقه والسلوك، ويجعلون للجغرافية سلطانا على الدين باسم الخصوصية وحفظ الأمن الروحي للمواطنين من الوافد الوهابي المشرقي!! وتحصين المساجد والمؤسسات الدينية من هذا الأصيل الذي انقلب بعد غمضة عين وانتباهتها إلى مجرد دخيل يريد أن يربطنا بفتاوي الغاز وعقيدة البنزين في استعارة نابزة لأصحاب الفضل ابن الباز وابن العثيمين رحمة الله على الجميع.
إن علينا أن نفيق من بياتنا الطويل وأن نقوم من نعاسنا الذي حجبت علينا مناماته وأضغاث أحلامه الكثير من الأعطاب وأسبابها بل وجعلتنا نركن إلى السلبية في أبشع صورها، علينا أن نزيح ذلك الغبش الذي يحجب عنا الرؤيا ويشوش علينا نفاذ البصر بعد إطلاقه؛ ثم إرجاعه لنعلم أنه إذا كان طرف من هذه الأمة اليوم يقاوم الموت والهلاك الظاهر الجلي بفعل الآلة الحربية الصليبصهيونية فقد يكون هذا أرحم على شدته ويسير على عسرته؛ إذ يستطيع المرء في مناخه القاتل أن يجيش سخائم المقاومة وأن يوحد صفوفه ويميز بين صديقه صدقا وعدوه حقا، ولكن أنّى لنا نحن الذين يتغلغل فينا الغرب باستعمار هادئ مسالم ظاهره الرحمة وباطنه العذاب الأليم وأنفاله المغنم العظيم.
منهجيته على صبر ومضض تنساب بيننا بنعومة وتأن غايتها الحضارية تدجين جفلى السلفية في بيئة صوفية قرب شيوخها من الحضرة الربانية، والإغراق في نورانيتها جعلتهم يبيعون الأرض والعرض في صمت غالب وكلام مغلوب صادر عن عقلية قدرية قوامها أن التمكين صار مستحيلا، والمرء فوق طاقته لا يلام، والأمر لا يعدو أن يكون ابتلاء من الله كما هو حال كل شيء في هذه الحياة الدنيا.
إن المطلوب منا إذا هو تلك اليقظة التي تجعلنا نتعامل بحكمة مع قدر المواجهة وابتلاء الاستلاب الذي ينزع منا كل أسباب القوة ودواعي التمكين، إن علينا أن نخرج من أدراج مكتباتنا الحبلى بأسفار عقيدة وتراث وفقه أسلافنا؛ خروجا نحمل فيه معنا دعوة التوحيد الذي دعا إليها نبينا عليه الصلاة والسلام طيلة حياته الشريفة المباركة، خروجا متأبطين فيه ذلك الزخم العلمي الرافع إلى واقعنا الموبوء لنخل ما ينفع وتمييزه عن شوائب الغثاء، خروجا نتصدى فيه تقربا إلى الله تعالى بالجنان السليم واللسان الحكيم والقلم العليم لهذا الجيش من المارقين الذين تناثرت أعمدتهم في كل صحيفة مأجورة يحاربون الله ورسوله تحت ستار محاربة السلفية والوهابية والإرهاب والتطرف، ويركبون صهوة المال والشهرة بحسب ما يقدمونه لأسيادهم صناع الاستعمار قديما وحديثا من جرأة سافرة على شريعة الله وشعائر دينه.
وعلينا في خروجنا أن نتبع منهج نبينا في المواجهة والإصلاح والمناظرة؛ حتى لا يجرمننا شنآن هؤلاء فنحيد عن سبيل العدل إلى سبل الشطط والظلم والتعصب والذي مبناه على الكذب والزور والبهتان؛ كما هو ديدن الكثير منهم.
نسأل الله دوام العافية لنا والمعافاة لغيرنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *