توجيهات قرآنية في الحث على أدب المعاملة 2/2 د.عبد العزيز وصفي باحث في العلوم الشرعية والاجتماعية

كثيرة هي التوجيهات القرآنية التي تحث على الالتزام بالأدب في التعامل مع الآخرين، وقد وقفنا في العدد الماضي مع بعض هذه التوجيهات، وسنحاول في هذه الورقة الوقوف مع بعض منها على سبيل المثال لا الحصر:

 

  1. الحث على خفض الصوت وعدم رفعه

من توجيهات القرآن الكريم في الحث على الأدب مع الآخرين، الدعوة إلى خفض الصوت وعدم رفعه. ويظهر هذا التوجيه جَليِّاً فيما جاء على لسان لقمان الحكيم في وصاياه لابنه. قال تعالى: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ[1].

قال الآلوسي: “والحكمة في غض الصوت المأمور به، أنه أوفر للمتكلم، وأبسط لنفس السامع، وفَهْمِه”[2].

وأدب خفض الصوت ينبغي مراعاته مع جميع المخاطبين، بغضِّ النظر عن سِنِّهم ومكانتهم، غير أنه يزداد تأكيداً مع ذوي المكانة والشأن، وعلى هذا جاء التوجيه القرآني بخفض الصوت في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم ، الوارد في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ[3]. وكذلك في حضرة الوالدين كما يُفهم من قوله تعالى: ﴿ فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ٭ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا[4].

 

ولعلنا أحوج ما نكون إلى الهدوء وعدم رفع الصوت في الحوار الذي يجري مع المعارضين والمخالفين، فإنه يحسن بالمحاور ألا يرفع الصوت أكثر مما يحتاج إليه السامع. فإنَّ رفع الصوت لا يُقوِّي حجة صاحبه قط، وفي أكثر الحالات يكون صاحب الصوت الأعلى قليل المضمون، ضعيف الحجة، يستر عجزه بالصراخ، على عكس صاحب الصوت الهادئ الذي يعكس عقلاً متزناً وفكراً منظماً وحجة وموضوعية.

قال أبو عثمان محمد بن الشافعي: ما سمعتُ أبي ناظر أحداً قط فرفع صوته[5].

وقد وُجد بالخبرة والتجربة، أنَّ الصوت المعتدل الهادئ المتأني من غير صراخ أو صياح، ومن غير إسرارٍ وإخفات، هو الأدخل إلى النفوس، والأنفذ إلى الأعماق، والأحفظ لجلال الكلمة ووقار المتكلم.

 

  1. الحث على طلاقة الوجه وعدم العبوس

تُعدُّ طلاقة الوجه لوناً من ألوان التحبب إلى الناس، ووسيلةً مؤثرةً من وسائل التقرِّب إلى الآخرين ومداراتهم. قال تعالى موجهاً رسوله الكريم إلى هذا السلوك: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ[6]؛ أي تواضع لهم وأَلِنْ جانبك، وعامل أهل الإيمان بالإحسان والرفق والحنان. كما حذَّره سبحانه من الفظاظة والغلظة والقسوة والشدة باعتبارها من المنفِّرات والمفرِّقات والمذهبات لأخوَّة الإيمان، فقال سبحانه: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ[7].

ونهى القرآن الكريم صراحةً عن العبوس في وجه الشخص في أثناء الحديث معه، فقد عاتب سبحانه وتعالى رسوله الكريم لعبوسه في وجه أحد الصحابة. قال تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَن جَاءهُ الأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى، كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ[8].

 

والمطَّلع على سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسنته الشريفة، يجد بما لا يدع مجالاً للشك، أنه كان القدوة في حُسن الإخاء وجميل المعاشرة وطلاقة الوجه. فنظراً لأهمية هذا الخُلُق الرفيع، وما انطوى عليه من الآثار الجليلة في نفوس الناس، وكونه من أبرز أسباب تجمع القلوب، وإشاعة الألفة والمحبة والوداد بين الإخوان، وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم يحث على طلاقة الوجه في لُقيا المؤمنين بعضهم بعضاً. فقد قال عليه الصلاة والسلام: »لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المعروف شيئاً ولو أنْ تَلْقَى أخاك بوجْهٍ طَلِق«[9]. وقال: »تبسُّمك في وجه أخيك لك صدقة«[10].

 

  1. الحث على أداء التحية وردِّها

الناظر في التوجيهات القرآنية التي تحثُّ على أدب المعاملة، يجد أنها تُحدد السِّمة التي يحرص المنهج القرآني دوماً على طبع المجتمع المسلم بها، ألا وهي الدعوة إلى التمسك بكلِّ وسيلة من شأنها أنْ تُوثِّق عُرى الأخوة وتعزّز علاقات المودَّة بين أفراد المجتمع. ولعل إفشاء السلام والتحيَّة يُعدَّان في مقدمة تلك الوسائل التي تتجلَّى ثمارها في تصفية القلوب، وتوسيع دائرة التعارف بين الناس، وتوثيق الصِّلة بين عباد الله، وهي ظاهرة يُدركها كل من يمارسها على صعيد المجتمع، ويتدبّر نتائجها الإنسانية العجيبة. وقد اختار الله للمؤمنين أجمل معاني التحية ليتبادلوها فيما بينهم؛ وجَعَلَها كلمة السلام. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[11]. وقال: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً[12].

وإذا كان الإسلام قد حثَّ على أداء التحية، فهو في الوقت نفسه قد حثَّ على ردِّها. وإنْ كان الحث على أدائها قد جاء على وجه النَدْب، فإنَّ الحث على ردِّها قد جاء على وجه الوجوب. قال تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا[13]. قال القرطبي: “أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سُنَّة مُرغَّبٌ فيها، وردّه فريضة، لقوله تعالى: «فحيُّوا بأحسن منها أو رُدُّوها» “[14].

 

  1. النهـي عن النـجوى

النجوى: هي كلام السرِّ الذي يكون بين اثنين أو أكثر، في تخافت وتهامس، بعيداً عن أسماع الناس[15]. ويبين القرآن الكريم أنَّ النجوى من صفات المنافقين الذين يَجبنون دائماً عن التصريح بآرائهم ومعتقداتهم، ويعتادون على التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول. قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[16].

وفي النهي عن النجوى دليلٌ على حرص الإسلام على مراعاة شعور الآخرين، إذ إنَّ النجوى على هذه الصورة تؤدِّي إلى سوء الظن بالآخرين وجرح مشاعرهم، لما قد يوحيه هذا التصرف لهم بأنهم ليسوا أهلاً للمشورة أو الصحبة.

 

  1. النهي عن السخرية والتنابز بالألقاب

الناظر في أثر السخرية والتنابز بالألقاب على العلاقات الإنسانية، يجد أنَّ سُخرية الإنسان من أخيه الإنسان معول هدَّام يسعى حثيثاً في تخريب العلاقات الإنسانية، وتمزيق الأخوة الإيمانية شرَّ ممزَّق، حيث يستعلي المرء بماله أو حسبه أو جاهه، مفاخرة ومباهاة وتحقيراً للآخرين، دون أن يُدرك إمكانية تفوِّقهم عليه بمواصفات لا تتوافر فيه، وهذه كلها أسلحة إبليس يضعها بين أيدي الخلائق ليفرِّق بينهم، وليزرع العداوة والبغضاء في قلوبهم.

ونَهى الله تعالى المؤمنين عن السخرية من الآخرين مهما كانت صفاتهم وأوضاعهم، فلعلَّ من يُسخَر منه ويُنظر إليه نظرة احتقار واستخفاف، خيرٌ وأحبُّ إلى الله من الساخر الذي يعتقد في نفسه الكمال، ويرمي أخاه بالنقص والعيب. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ[17]. وقال تعالى: ﴿ولا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[18].

ويستوقفنا في هذه الآية قوله تعالى: ﴿ولا تلمزوا أنفسكم﴾ فكيف يصحُّ هذا التعبير علماً بأن الإنسان يلمز غيره لا نفسه؟ إنَّ في هذا التعبير القرآني تذكيرٌ للمؤمنين بأنهم وحدة متماسكة كنفس واحدة، فمن عاب غيره من المؤمنين، فكأنما يعيب نفسه. وفي هذا إشارة إلى مستوى العلاقة التي يجب أن تسود بين المسلمين. إنها الأخوَّة التي تجعل من الحفاظ على حقوق الأخ حفاظاً على حقوق النفس.

فالقرآن الكريم يؤسس لقواعد اللياقة الاجتماعية، والأدب النفسي للتعامل في المجتمع الإنساني، فالمجتمع الفاضل من وجهة النظر القرآنية، لا بدّ وأن يقوم على أسسٍ من الأدبيات الذوقية، التي ينبغي أنْ تَحكم العلاقات السائدة بين أبنائه. إنه المجتمع الذي يترفَّع أبناؤه عن الهمز واللمز والسخرية، ويكون الأدب هو الخُلق الذي يحكم تعاملهم فيما بينهم.

 

  1. النهـي عن الغيبة والنميمـة

من الأمور التي وجَّه القرآن الكريم لاجتنابها لمنافاتها أدب المعاملة، الغيبة والنميمة. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ[19]. وقال: ﴿وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَّهِينٍ، هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ[20].

والهدف من هذه التوجيهات، هو تنقية المجتمع الإسلامي من شوائب الخسَّة والضِّعة، وبناء العلاقات الاجتماعية على أسس المودَّة والإخاء والنصيحة، وشغل الوقت بالإيجابيات النافعة، وصون الأمة عن السلبيات المبدِّدة، فالمؤمن طاهر القلب أبداً عفيف اللسان، إذا رأى عورة لأخيه سترها، وإذا شاهد نقيصة أعرض عن نشرها، ونبهه سراً للإقلاع عنها، كما قال الشاعر:

إذا شئتَ أنْ تحيا سليماً من الأذى ودينُكَ موفورٌ وعِرْضُكَ صَيِّنُ
فلا ينطـق منـكَ اللسان بسوأةٍ فللناس سوءاتٌ وللناسِ ألْسُنُ
وعينُكَ إنْ أبدَتْ إليـك مَساوياً لقومٍ فقلْ يا عينُ للناسِ أعينُ
فعاشرْ بإنصافٍ وكُـن متـودِّداً ولا تلقَ إلا بالتي هي أحسنُ[21]

وذِكرُ هذه الأشياء التي يُعاب بها الإنسان يُساعد على شيوعها، والله سبحانه لا يحبّ أن تشيع هذه السلبيَّات في حياة الناس. ولا يخفى ما ينشأ من آثارٍ سيئة في العلاقات بين الناس نتيجة سماع هذه المعايب، وما يُثار من ضغائن وأحقاد عندما يُنقل هذا الكلام إلى الطرف الآخر. وقد سعى الإسلام إلى إقامة سياجٍ حول حُرمات الأشخاص وكراماتهم وحرياتهم، وتعليم الناس كيف يطهِّرون مشاعرهم وضمائرهم في أسلوب متفرِّدٍ عجيب.
————————————————-
[1]  لقمان:19.

[2]  الآلوسي: روح المعاني، ج21، ص91.

[3]  الحجرات:2.

[4]  الإسراء:(23-24).

[5]  النووي، يحيى بن شرف: تهذيب الأسماء، (بيروت: دار الفكر، ط1، 1996م)، ص84.

[6]  الحجر:88.

[7]  آل عمران:159.

[8]  عبس:1-11.

[9]  مسلم: الجامع الصحيح، كتاب البر والصلة والآداب، باب رقم 43، حديث رقم 2626، ج4، ص2026.

[10]  الترمذي: السنن، كتاب البر والصلة، باب رقم 36، حديث رقم 1956، ج4، ص339.

[11]  النور:27.

[12]  النور:61.

[13]  النساء:86.

[14]  القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج5، ص298.

  [15]انظر: الخطيب، عبد الكريم: التفسير القرآني للقرآن، (د.م: دار الفكر العربي، د.ط، د.ت)، ج7، ص823.

[16]  المجادلة:(7-10).

[17]  الحجرات:11.

[18]  الحجرات:الآية 11.

[19]  الحجرات:الآية 12.

[20]  القلم:10-11.

[21]  الأبيات منسوبة للإمام الشافعي. انظر: الديوان، جمع وتحقيق: اِميل يعقوب، ص163.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *