القلب مضغة مستقرة في جسد الإنسان إذا صلحت سرى صلاحها في جميع أعضاءه وإذا فسدت عم الفساد كل مكوناته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إنَّ في الجسدِ مُضغةً إذا صلَحت صلَح لها الجسدُ وإذا فسَدت فسَد لها الجسدُ كلُّه” صحيح ابن حبان:297.
والقلب مُستقَر الإيمان، ومأوى العقيدة، ووعاء اليقين، مستقبل المدد الرباني، وهو في الوقت نفسه، منفذ النور الإيماني، مُولد للتفكر في ملكوت الله، جسر للتدبر في سننه ونواميسه، منبع للخشوع والتقوى، محل للإخبات في الطاعات والعبادات.
ولصلاح القلوب وتطهيرها من الأدواء، وتنقيتها من الشوائب، وعلاجها من الأمراض، وسائل وأدوات.
تدبر القرآن الكريم:
تدبر القرآن الكريم مفتاح لأقفال القلوب ومغاليقها: “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ” محمد: 24، وهو شفاء لما في الصدور من أدواء حسية ومعنوية، لأن في تلاوته وتدبره كشف الهموم وانشراح الصدور: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ” يونس: 57، وفي تعلمه وتدارسه إنزال السكينة وغشيان الرحمة، وإحاطة الملائكة، والدخول في حصن الله الحصين، والاحتماء بحفظه المنيع، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله و يتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده” سنن أبي داود: 1455.
ذكر الله تعالى:
ذكر الله تعالى له آثار عظيمة في مداواة القلوب وعلاجها، وذكر الله تعالى يشمل تلاوة القرآن وتدارسه والاستماع إليه، كما يكون بتعظيم الله تعالى والثناء عليه بالحمد والتسبيح والتهليل والدعاء بما أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول عليه الصلاة والسلام: “ما أصابَ أحدًا قطُّ همٌّ ولا حَزنٌ فقال: اللَّهمَّ إنِّي عَبدُك، وابنُ عبدِك، وابنُ أمتِك، ناصِيَتي بيدِكَ، ماضٍ فيَّ حكمُكَ، عدْلٌ فيَّ قضاؤكَ، أسألُكَ بكلِّ اسمٍ هوَ لكَ سمَّيتَ بهِ نفسَك، أو أنزلْتَه في كتابِكَ، أو علَّمتَه أحدًا من خلقِك، أو استأثرتَ بهِ في علمِ الغيبِ عندَك، أن تجعلَ القُرآنَ ربيعَ قلبي، ونورَ صَدري، وجَلاءَ حَزَني، وذَهابَ هَمِّي. إلَّا أذهبَ اللهُ عزَّ وجلَّ همَّهُ، وأبدلَه مكانَ حَزنِه فرحًا. قالوا: يا رسولَ اللهِ! يَنبغي لنا أَن نتعلَّمَ هؤلاءِ الكلماتِ؟ قال: أجَلْ! ينبغي لمَن سمِعَهنَّ أن يتَعلمَهنَّ” صحيح الترغيب: 1822.
ومن هذه الآثار:
الوجل:
هو الفزع والخوف وفيه استنفار للقلب والجسد بالتوجه إلى الله تعالى، والإقبال عليه والإخبات له: “وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَىٰ مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ” الحج: 34-35، وهو نتيجة لمن تأثرت قلوبهم بذكر الله، وتحركت لوقع آياته على مسامعها، كما أنه علامة على استقرار الإيمان ورسوخ العقيدة: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ” الأنفال: 2.
الطمأنينة:
سكينة روحية وراحة قلبية يجدها المؤمن في ذكر الله تعالى، فكلما ذُكر الله إلا واستقر القلب على الإيمان، وسكن إلى التصديق، وزال عنه كل شك محتمل: “الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ” الرعد: 28،
الخشوع:
ويشمل التواضع والخضوع والتذلل والتضرع والإخبات، وهي كلها معاني تفيد النزول عند أوامر الله تعالى، والانكسار عند طاعته والامتثال لأحكامه، والخشوع دواء للقلوب القاسية، علاج للأفئدة المتحجرة: “أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ” الحديد: 16.
الرقة واللين:
سماع كلام الله يزيد قلب المؤمن خشوعا، يتجلى ذلك في ارتعاش القلب واقشعرار الجلد، يستتبعه رقة ولين وهما من آثار سريان الطمأنينة بذكر الله وغشيان السكينة بسماع آياته: “اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ” الزمر: 23.
الوقاية من الشيطان:
وهذا الأثر للذكر يعد من فضائل لزومه، ومن فوائد المواظبة عليه، لأنه حرز من الآفات، وتحصين من شرور الإنس والجن، عنِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: “يولَدُ الإنسانُ والشَّيطانُ جاثِمٌ على قلبِهِ فإذا عقلَ وذَكرَ اسم اللَّهَ خنسَ وإذا غفلَ وسوَسَ” فتح الباري: 8/614. (ضعيف).
الإيمان الخالص:
يستمد القلب خلاصه من الإيمان الخالص الذي وقر فيه، إيمان لا يجد له الشك طريقا ولا يخالط صفاءه ريب، وهذه مرتبة عالية من سلامة القلب، فيها النجاة المحققة يوم البعث: “وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ” الشعراء:87-89.
“..قيل: من الشك والشرك.. القلب السليم الصحيح هو قلب المؤمن، لأن قلب الكافر والمنافق مريض.. وقال الضحاك: السليم: الخالص.. وقال ابن سيرين: القلب السليم أن يعلم أن الله حق، وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في القبور..” الجامع لأحكام القرآن: 13/108-109.
شرح الصدر:
هو فضل وإنعام من الله تعالى على من شاء من رسله وأنبيائه وأصفيائه، والشرح قد يكون بالمعنى وهو تهيئة البيئة القلبية لتلقي الهدى الرباني، “فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ” الأنعام: 125.
وقد يكون بالحس الملموس وبالفعل المحسوس، كما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم في حادثة شق صدر وغسل قلبه الشريف، وشواهد ذلك حاضرة في القرآن الكريم وكتب السيرة النبوية: “أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ” الشرح: 1-4.
وعن أنس بن مالك :أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ أتاهُ جبريلُ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ وَهوَ يلعَبُ معَ الغلمانِ، فأخذَهُ فصرعَهُ فشقَّ عن قلبِهِ، فاستَخرجَ القلبَ، فاستَخرج منهُ علَقةً، فقال:هذا حظُّ الشَّيطانِ منكَ، ثمَّ غسلَهُ في طَستٍ من ذَهَبٍ بماءِ زمزمَ، ثمَّ لأَمَهُ، ثمَّ أعادَهُ في مَكانِهِ، وجاءَ الغِلمانُ يسعَونَ إلى أمِّهِ (يَعني ظئرَهُ) فقالوا: إنَّ محمَّدًا قد قُتِلَ، فاستَقبلوهُ وَهوَ مُنتقعُ اللَّونِ، قالَ أنسٌ: وقد كنتُ أرى أثرَ ذلِكَ المِخيَطِ في صدرِهِ” مسلم: 162.
اللهم اشرح صدورنا لهدايتك وثبت قلوبنا على دينك، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين.