فئة الأطباء والطبيبات والممرضين والممرضات وأعوانهم (من إداريين وسائقي سيارات الإسعاف وغيرهم)؛ فئة لها ارتباط وثيق بخدمة المريض..
وإذا كان الأقارب تجمع بينهم وبين مرضاهم رابطة القرابة والدم، مما يحفزهم إلى خدمتهم والعناية بهم؛ فإن الأطباء ومن معهم يجمعهم بالمريض عقد ديني واجتماعي ومهني يُطَوق عنقهم بمسؤولية مهمة..
والعقد الديني يجعلهم يتحملون مسؤولية أمام الله سبحانه..
إن الدول التي وثقت العقد المهني والإنساني بين المريض والمعالج؛ بتحسين أوضاع هذا الأخير، والرفع من مستوى دخله واستفاداته المادية، مع الرفع من درجة الرقابة والمحاسبة؛ قد نفعت مرضاها نفعا عظيما وهيأت أسبابا مهمة لتوفير خدماتهم الضرورية والتكميلية.
وتحقيق هذا الوضع؛ أمر لازم ومحتم على الدول (النامية)؛ لأن الوضعية الجيدة للمنظومة الصحية والأسرة الطبية؛ تعني توفير أجواء علاج وتأهيل أفضل للمرضى والمصابين؛ كما تأكد ذلك بعد تفشي وباء كوفيد 19 وما خلفه من أزمات وما كشفه من اختلالات في المنظومة الصحية لكثير من الدول..
وهي فرصة للتوجه بجزيل الشكر وموفور التقدير إلى أولئك الأطباء والممرضين والطبيبات والممرضات؛ الذين ارتفع رصيدهم الإيماني وعظم ضميرهم الإنساني؛ وأبانوا في هذه الظرفية الصعبة عن حس أخلاقي رفيع؛ ساعدهم على التحلي بنكران الذات والمبادرة والتضحية.
لقد انخرطوا في سعي حثيث وعمل دؤوب لقضاء حوائج المرضى وتفريج همومهم؛ وأعطوا أروع الصور عن نكران الذات، وإجهاد الفكر، والسهر والسعي لتخفيف الآلام وتقليص الأضرار، في إخلاص وصمت، وخلق رفيع؛ والله لا يضيع أجر من أحسن عملا..
وفي المقابل: لا بد من نصح أولئك الأطباء الذين خفَتَ صوت ضميرهم، ورانت القسوة والأطماع على قلوبهم؛ فأورثت أخلاقهم كبرا واستعلاء، وجشعا واستغلالا:
فإن كان المريض من الفقراء والمساكين؛ فزجر وصراخ، وإهمال وازدراء..
وهنا تغيب الإشراقة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: “تبسمك في وجه أخيك صدقة” [رواه الترمذي وحسنه].
أما إذا كان المريض ذا وضعية مادية حسنة؛ فهنا تفتح أبواب الابتزاز المالي على مصارعها؛ وبقدر بذله وسخائه بقدر ما تتسع رقعة الابتسامة في الوجه، وتتوسع آفاق الخدمات وتتحسن جودتها، ويصير ما كان مستحيلا في حق الفقير ممكنا، ويضحي القريب بعيدا والشاق ميسرا..
ولله العجب من أنواع من الابتزاز؛ تصل إلى درجة مطالبة المريض بمقابل مادي فيه هامش فاحش من الربح..
وإن شئت مضحكة مبكية؛ فإني أعرف مريضا اضطُر لينقل في سيارة إسعاف لإجراء عملية جراحية عاجلة؛ فبينا هو يكابد تدني الضغط واشتداد الألم، إذا به يسمع سائق سيارة الإسعاف يهمس في أذنه: (هل عندك مال تدفع منه أجرة النقل المرتفعة؟)!!
إن إصلاح هذا الوضع واجب على الدولة؛ ولا ينبغي أن تخلي بين المبتزين والمرضى يسومونهم سوء الذل والاستغلال الفاحش، بل عليها أن تحسن أوضاعهم وتفعل رقابتهم وتسهر على محاسبتهم.
إلا أن علاج هذا الوضع من منظور شرعي لا يقف عند هذا الحد؛ بل يتضمن توجيهات وإرشادات لا بد للأطباء وأعوانهم من استحضارها والاجتهاد في العمل بها:
القناعة:
إننا لا ندعو الأطباء إلى التخلي عن أجورهم ومستحقاتهم المادية؛ وإنما نحثهم على الاعتدال والتوسط في تطلب المال وتفادي الجشع والتربح غير المشروع..
وخير دواء للجشع هو القناعة، وهي الغنى الحقيقي؛ لأنها تجعل صاحبها في راحة وطمأنينة من داء المنافسة على مراكمة الثروات..
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة” [رواه ابن ماجه وصححه الألباني]
وفي حديث آخر: “لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب” [رواه البخاري ومسلم]
وقد قال الله تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا} أي شديدا كثيرا.
قال المفسرون: “وهذا ذم للحرص على المال وشدة الرغبة فيه”.
احتساب الأجر عند الله:
لقد كنت كثير الدعاء والثناء على من قدم لي خدمة من هيئة التمريض والعلاج، فعاتبني أحدهم مرة قائلا: “لماذا تدعو له؟ إنه يقوم بما يتقاضى عليه أجرا؟”.
فأجبته: إن أجره مهما بلغ لا يعفينا من واجب الشكر وأدب عرفان الجميل، ودعائي له؛ فيه تذكير بأن له بابا آخر من أبواب الأجر عند من لا تنقضي خزائنه، ولا نستغني عن بركاته سبحانه وتعالى.
وهذا يحرك في قلب الطبيب نية الاحتساب والرغبة في الأجر والثواب قبل الرغبة في الأجرة وتوسع الأسباب؛ فيكون كالحاج الذي جمع بين ثواب الحج ومكاسب التجارة؛ قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198].
تشبع القلب بالرحمة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: “الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى: ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء“.
وقد يكون هذا الخلق شاقا على الطبيب والممرض وأعوانهما؛ لكثرة ما يرون من أعداد المرضى والمصابين، والإلف مظنة الزهد في الأشياء، وهذا يجعل أجرهم على رحمة المريض مضاعفا إن شاء الله..
فيا لبشارة ذلك الطبيب الذي يرابط في قسمه ولا يغادره حين يكون دوره في الحراسة..
ويا لبشارة ذلك الممرض الذي يسمع أنين المريض في جوف الليل فيأتيه ويضع يده على رأسه قائلا: هل من خدمة أقدمها لك؟
وهنيئا للطبيب أو الممرض الذي ينجد المريض في أية ساعة استغاث به من ليل أو نهار، ولو تكرر ذلك؛ فإن ما يجده الطبيب من مشقة التردد على المريض هو أهون بكثير مما يشتعل في جوف المريض من لهيب الألم والوجع..
ولئن نسيت فلن أنسى مشهد ذلك المريض الذي بلغ به الوجع مبلغا عظيما؛ فنادى في ظلمات الليل: “أيها الممرض أغثني”!
فما كان من الأخير إلا أن قال له: “انتظر حتى تحين ساعة تقليب المرضى”!!
والله لو تعقل أمثال هؤلاء لعلموا أن بين يديهم فرصة عظيمة يتاجرون فيها تجارة لن تبور؛ وهي التجارة التي بيّن سوقها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه” [رواه مسلم]
فقه التعامل مع المريض:
إن لمعاملة المريض فقها ينبغي أن يستوعبه المعالجون –وهو معلوم لدى أكثرهم، لكن قل من يعمل بمقتضاه-، ومن أبجدياته؛ أنه ينبغي علاج نفسية المريض قبل علاج بدنه (il faut traiter le malade avant de traiter la maladie)
وما تغني كثرة العقاقير وتنوع الوصفات العلاجية عن مريض لقِسَت نفسه وتكدّر مزاجه؟؟
طريفة:
مر مساعد طبيب بمريض يقتاده إلى أحد مصالح المشفى؛ فمرا بقاعة مغلقة الباب؛ فقال المساعد للمريض: “هذا مستودع الموتى”!
الاختلاط المستهتر:
نتميز –معشر المسلمين- عن غيرنا بدين يتضمن أحكاما شرعية وآدابا مرعية شرعها الله لمصلحة عباده؛ ومنها تحريم الاختلاط المستهتر بين الرجال والنساء.
وفي الوقت الذي نُحَيّي فيه عرف بعض المستشفيات القاضي بأن المريضة تسعفها الممرضة دون الممرض؛ فإننا ندعو إلى توسيع الدائرة؛ وإقامة نظام الفصل بين الجنسين بالقدر الممكن؛ فإنه أطهر للقلوب وأصون للأعراض..
وفي بعض المستشفيات من مفاسد هذا الاختلاط ما يندى له جبين الحياء والمروءة: نساء دخلن مريضات فخرجن زانيات / تعامل ساقط بين ممرضين وممرضات وممرضات وأطباء / خيانات زوجية / ابتزاز جنسي..إلـخ.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها” [رواه مسلم].
وإذا كان هذا في المساجد؛ فكيف بالمستشفيات؟!