العلمانية ولعبة ابتسار التنزيل عبد المغيث موحد

جماع ما يدندن حوله العلمانيون اليوم بعدما تصدع بنيانهم وتهشم زخرف قولهم وحسر خمار التدليس عن مشروعهم الطوباوي الذي ملأوا دنيا الناس والمساكين بآفاقه ونفاقه السرابي؛ هو التعاطي الحائف والانكباب الزائف عن موضوع المرأة، فاتحين ما بات يعرف في أدبياتهم بحرب النساء؛ حرب قوامها إشهار سيف الغدر وقلم الهدر حول مواضيع الحجاب والبكرة والتمثيل الرسمي في دواليب الحكم، وافتعال ضجة زواج الصغيرة وانتحار المغتصبة، والنفخ في أرقام وإحصائيات وفاة المتزوجات الصغيرات في “صالات” الولادة، وكذا المزايدة بموضوع العنف ضد المرأة، وحقيقة الاندماج في المجتمع المغربي الحداثي الملة، العلماني الهوية على حد زعمهم.
وقد تعدى تطاولهم هذا بل تجاوز المرأة إلى مواضيع ذكورية؛ كختان الأطفال، والاعتداء الجنسي تحت مسمى وشعار”ما تقيش ولدي” على وزن “ما تقيش بلادي”، وحقوق الأقليات القليلة التي ساكناها وساكنتنا عقودا من الزمان في سلم وسلام، في محاولة منهم غير بريئة لخلق الإثنيات البغيضة..
وغير بعيد عن مجال اختصاصهم الإنساني ورسالتهم الكونية نجدهم قد تسللوا لواذا إلى محاريب ديننا للكلام عن الإرهاب والتطرف والظلامية وخطر الوهابية، ومقاومة التهريب الديني الذي بات يهدد كيان الأمن الروحي لمعشر المغاربة، وفي صفاقة سافرة نجد العلماني المعربد الذي لربما لم يلامس ردفه ولم تلمس ناصيته سجاد بيوت الله، ولم يعرف أو يتعلم أدبيات الغسل وواجبات الوضوء وسننه ينتصر بتعصب مارق للانتساب إلى فقه إمامنا مالك، بل نجد الشيوعي الذي لم يؤمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا قد ملأ المنابر وصدع باعتزاز وأنفة إلى انتسابه إلى عقيدة الأشعري وسلوك الجنيد السالك وإلى الإسلام الوسطى السمح المعتدل، حتى إنك في هذا الباب والخصوص لا تكاد تجد علمانيا متأسلما لا يواجهك بما هو محفوظ بالقطع والنطع والدراية والرواية لمتن حادثة التأبير الذي يجيد فيه العلمانيون قضية الأسوة والتأسي بنبي الرحمة، شاهرين في وجهك قول الصادق المصدوق: “أنتم أعلم بأمور دنياكم”، حتى ليخيل إليك مع شدة التعاطي أن النبي لم يخاطب بهذه الكلمة معشر الأنصار بل خاطب بها معشر العلمانيين.
وحتى لا نسترسل مع هذا النضب السحيق، نقف وقفة تحدي لهؤلاء الذين أشهروا ورقة النقد لإبطال الميثاق والعقد؛ لنتساءل عن غيابهم المدخون وسكوتهم المبطون أمام ما تتعرض له الأقليات الإسلامية من إبادة واغتصاب للعرض والأرض في المجتمعات ذات الأغلبية النصرانية والبوذية والهندوسية والسيخية، وعن الحملات التبشيرية التي صارت لها الصولة والعربدة في ربوع جغرافيا الإسلام، وعن حجاب الراهبات وتبتلها، وعن لحي اليهود والهندوس، وعن اغتصاب الأطفال والصغار في الفنادق العالية التصنيف، وعن المرأة في مجتمعهم الغربي الطوباوي حيث تمتهن المرأة أقذر المهن، بل تحشر بجسدها حافية عارية في واجهات زجاجية كما توضع البطاطس والطماطم والموز والبطيخ، مع الاستدراك بكون هذه الخضر والفواكه تعرض بقشرتها وبفطرتها؛ في مقابل ما تعرضت له المرأة تحت مسمى الحريات العامة الغربية من وأد وسلخ ومسخ.
ثم أين هي مقاربتكم في مقابل افتعال ضجة التعدد؛ مقاربتكم لإصلاح عطب العنوسة، وانتشار ظاهرة أمهات العوازب وزنى المحارم، وسريان داء فقدان المناعة في دماء شريحة ملغومة لا يعلم حجمها وعددها إلا الله سبحانه وتعالى؟
ثم أين الذين يصطفون طوابير وزرافات أمام المحاكم والمنظمات الحقوقية والسجنية ويشعلون الشموع انتصارا للمجرمين المعتدين في حق الحياة ونبذ حكم الإعدام؟
أين موقفهم من الأرقام الموهولة في المجتمعات غير الإسلامية وعلى رأسها ولاية تكساس الأمريكية وسجون الصين البوذية للإعدامات التي تنفذ باسم القوانين الوضعية ذات المرجعية المدنية؟
إننا مضطرين مرة أخرى لنقف لا لنتحدى أو لنستفهم، ولكن لنقرر أن هذه القضايا المثارة بشكل حاد وضخم، هي لا تعدو أن تكون حربا على المرجعية الإسلامية؛ حربا ضروسا على كل ما يشم منه رائحة الدين الحنيف، وقد يهم بعد هذا الإقرار والإيمان به الإحاطة علما بمكر الماكرين وأساليب المرجفين الذين يبغونها عوجا كلما أهلّ عليهم هلال توحيد يكسر غرانيق علمانيتهم ووثنيات حداثتهم وجاهلية مدنيتهم، أو لاح لهم في الأفق تنفيذ لإرادة من خلق فسوى وقدر فهدى، فكان من خلقه الزوجين الذكر والأنثى والليل والنهار والأرض والبحار والمسلمون والكفار، يريدون في بغية عوجهم أن يجعلوا لهم في أوطانهم جزرا ليستقبلوا وافدات الغرب وكفرياتهم وسلوكياتهم التي لو عرضت على معشر البهيمة لأبتها وتصدت لها بعنف أو هرب.
واسمع لعميد الحطب الغربي أعمى البصيرة طه حسين وهو يؤرخ في ظلمة لميثاق الاستعباد ونشوة الاستغراب، وهو يقول في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”: “لقد التزمنا أمام أوربا أن نذهب مذهبها في الحكم، ونسير سيرتها في الإدارة، ونسلك طريقها في التشريع..”، وهكذا وعبر آلية تجزيء الوحي -أي بالاصطلاح القرآني: الإيمان ببعض الكتاب والكفر بالكل الباقي- تفرق دم الكل الإسلامي بين قبائل العلمانية وسخائم الليبرالية وجحافل التنويرية وطوابير الإصلاحية، فكان أن اختزلته العلمانية في التحرر المدني، وابتسرته الليبرالية في الحريات العامة أو الفوضى المارقة القادحة في الفطرة المركوزة والصبغة الكسبية السوية، بينما فضلت التنويرية أن تقرأه في حوجلة التجربة المادية واعتساف العقلانية المعتوهة واختزاله في ركام المدنية في شقها العلمي النظري، بينما التقت في محيطه رؤية الإصلاحي مع الحروري الخارجي في تبني تأويلات النصوص الداعية إلى الإنكار السياسي خارج دائرة الحسنى والمعروف السلوكي الذي يراعي حق الحاكم على المحكوم امتثالا لله ورسوله حتى وإن جار وبغى واعتسف وطغى.
ولربما بحسن قصد وقراءة عمد تصب في محاولة تذليل المسافة ورتق الخرق بين الحق وخلافه من نخالة الرأي وحَيْدة الاجتهاد، يمكن أن نقول أن الإسلام لم يعارض التحرر المدني المحفوف بالضوابط الشرعية الرادعة للمروق الفاضحة للفروق.
كذلك تجد إسلامنا العظيم لم يحجر واسع العلم والمعرفة المادية، ولم يهدم مصنعا، ولم يطفئ مصباحا، ولم يستعض عن ركوب الوثير من الدفع السريع بظهر البغال والحمير، بينما في باب الإنكار نجده وجه الإنكار في سياق النصيحة التي يقتضيها المقام ويعف بها المقال، حيث جعل كلمة الحق في وجه الإمام الجائر من أسمى تجليات الجهاد الطلبي الذي باركه الشرع وحماه من الزيغ الذي لا تحمد عقباه ويعود على البنيان المرصوص بالوبال الأفظع والكرب الأشنع.
هكذا نجد أن الإسلام السمح الحنيف قد استوعب ولم يبتسر، وتوسط بين تفريط المفرطين وزيغ الزائغين عن هدي سيد المرسلين وإمام المجاهدين، الذين حكى القرآن خبرهم مصداقا لقوله تعالى: { وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} (النساء:150)، بينما وفي المقابل كان أمر المؤمنين الموحدين إذا دعوا إلى الله ورسوله أن يقولوا: { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}، وإذا سمعوا ما أمروا به ونهوا عنه نقلا أخضعوا العقل لحكمة الذي قضى فقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً}.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *