هل يمكن أن يكون مرتكب المعاصي محبا لله ورسوله؟

نعم، يمكن ذلك، فكل مؤمن لابد أن يحب الله ورسوله، وإذا خلا القلب من محبة الله ورسوله، فهذا ليس بمؤمن.
وقد روى البخاري (6780) عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: “أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَنْ لَمْ يُحِبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ، وَإِنْ كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي الْإِيمَانِ وَمَا يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ حُبٍّ وَغَيْرِهِ” (مجموع الفتاوى 35/66).
وقال أيضا في “منهاج السنة النبوية” (4/570): “ومن المعلوم أن كل مؤمن فلا بد أن يحب الله ورسوله” انتهى.
ولكن هذا الإيمان إيمان ناقص بما أتى به من المعاصي، وهذه المحبة -من ثَمَّ- محبة ناقصة، ولو كمل إيمانه ومحبته لله، لكان مطيعا لربه، ونهى نفسه عن هواها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في “جامع الرسائل” (2/259): “فَكَمَا أَن الْمحبَّة الْوَاجِبَة تَسْتَلْزِم لفعل الْوَاجِبَات، فكَمَال الْمحبَّة المستحبة تَسْتَلْزِم لكَمَال فعل المستحبات، والمعاصي تنقص الْمحبَّة، وَهَذَا معنى قَول الشبلى لما سُئِلَ عَن الْمحبَّة فَقَالَ: مَا غنت بِهِ جَارِيَة فلَان:
تَعْصِي الْإِلَه وَأَنت تزْعم حبه… هَذَا محَال فِي الْقيَاس شنيع
لَو كَانَ حبك صَادِقا لأطعته… إِن الْمُحب لمن أحب مُطِيع
وَهَذَا كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن، وَلَا يسرق السَّارِق حَيْثُ يسرق وَهُوَ مُؤمن، وَلَا يشرب الْخمر حِين يشْربهَا وَهُوَ مُؤمن)” انتهى.
ويخشى على العاصي المتمادي في معصيته، أن يزداد حبه للمعصية يوما بعد يوم، ويقل حبه لله يوما بعد يوم، حتى يتلاشى من قلبه، ويكون ذلك عقابا له على استمراره على المعصية.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في “فتح الباري” (12/78) تعليقا على الحديث المتقدم:
“فِي هَذَا الْحَدِيث مِنْ الْفَوَائِد: ..أَنْ لَا تَنَافِيَ بَيْن اِرْتِكَاب النَّهْي، وَثُبُوت مَحَبَّة اللَّه وَرَسُوله فِي قَلْب الْمُرْتَكِب، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُوله، مَعَ وُجُود مَا صَدَرَ مِنْهُ. وَأَنَّ مَنْ تَكَرَّرَتْ مِنْهُ الْمَعْصِيَةُ، لَا تُنْزَعُ مِنْهُ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرَسُوله..
وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون اِسْتِمْرَار ثُبُوت مَحَبَّة اللَّه وَرَسُوله فِي قَلْب الْعَاصِي مُقَيَّدًا بِمَا إِذَا نَدِمَ عَلَى وُقُوع الْمَعْصِيَة، وَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدّ، فَكَفَّرَ عَنْهُ الذَّنْبَ الْمَذْكُورَ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَقَع مِنْهُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ بِتَكْرَارِ الذَّنْبِ، أَنْ يُطْبَع عَلَى قَلْبِهِ شَيْءٌ، حَتَّى يُسْلَبَ مِنْهُ ذَلِكَ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ” انتهى.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا للتوبة النصوح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *