مصير الهوية بين القلق والأمل ذ.أحمد اللويزة

شعب بلا هوية خارج سياق التاريخ، سقط متاع على حاشية الطريق، وفتات على موائد اللئام، وأمة بلا امتداد ولا سؤدد، ولقيط بلا نسب؛ إذا انتسب القوم لآبائهم وأجدادهم بقي هذا الشعب مشدوها فاغرا فاه جاحظ العينين.
الاعتزاز بالهوية شعور لا يوصف، ونشوة لا تقاوم، وحق لا يقبل التنازل تحت أي إكراه أو فهم أو ظرف، وهذا هو الذي تسهر عليه النخب الحاكمة المسؤولة في جل الدول التي توصف بأنها متقدمة ترعى الديمقراطية وتحرص على نشرها في ربوع المعمور، لكنها هي نفسها التي تقيم الحروب التي لا هوادة فيها عندما تشعر بأن هويتها التي تفتخر بها وتضمن لها التميز مهددة، فأعلنتها حربا على الحجاب والنقاب والمساجد والصوامع، والمقصود الاسلام؛ باعتباره يشكل في نظرهم خطرا محدقا بهويتهم، مع أن هذه الدول هويتها الديمقراطية التي تؤمن بالتعددية والتنوع، وعقيدتها العلمانية لا تتدخل في الدين والدين لا يتدخل فيها، هذه هي الصورة المعلنة والتي يتشدق بها خونة الأمة الاسلامية الذين يريدون علمنة أكثر مما هي عند أنبياء العلمانية وحكمائها الذين يقلقون لدرجة الاطباق من أجل هويتهم التي لا تفارق كينونتهم، ولا تبارح سويداء القلب، تحل معهم أينما حلوا وارتحلوا، لأنه تشكل منها اللحم والدم، وارتضعوها لبنا سائغا من أثداء أمهاتهم، لذلك يبقى كل وافد متجنس ومنصهر في ثقافتهم مواطنا من الدرجة الثانية وإن كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
فلا أدري لم كل هذه الخيانة وهذا التنكر من شرذمة المتعلمنين أصحاب المصالح والخائنين لتاريخهم وهويتهم، والمتنكرين لأصولهم طمعا في نعيم زائل وشهرة بائرة؛ فكيف نفهم كل هذا الإصرار -أكثر من محرضيهم- على فرض هوية ليس لها أساس ترتكز عليه، ولا أصل تنتسب إليه، ولا سند تعتمد عليه، هوية لقيطة ليس لها تميز ولا ناظم ولا تناسق، هذا إجرام مع سبق إصرار وترصد في حق هوية المغاربة الضاربة جذورها في أعماق التاريخ، هؤلاء المتآمرون المتكلمون باسم أنفسهم واسم الذين يأزونهم أزا عليهم أن يسكتوا ويستحوا ويخجلوا من أنفسهم، ويعتبروا بغيرهم ممن ليسوا على ملة الإسلام ممن تقدم دون تفريط في هويتهم التي تنبني على عقيدة خاصة، ويشعلون الحروب حتى تبقى حضارتهم مسيطرة، ويستعمرون الشعوب الإسلامية تكريسا لتخلفها وخشية نهضة الأمة فتنقلب معادلة الانبهار من الإنسان المسلم والعربي إلى الإنسان الغربي فتذوب هوية هذا الأخير كما ذابت هوية المنهزمين اليوم، الشاخصة أبصارهم إلى الغرب على أنه نهاية التاريخ، وللأسف تجد الهجمة الشرسة على هوية المسلمين أذانا صاغية وقلوبا فارغة تستوعبها فترددها كالببغاء، منخدعة ببريقها الزائف.
إن الحديث عن الهوية مخاطرة تحتاج مزيدا من اليقظة والحذر؛ لأنها كالسير في طريق شوك لابد من الانتباه، لأن أي فكر يعالجها في غير مواردها يتسبب في فقدان القيمة المضافة لشعب ما داخل منظومة الشعوب التي تعيش حالة من الصراع حول إثبات الذات والمدافعة من أجل البقاء، إن الحفاظ على الهوية هو سر الاستمرار، ومعين الإبداع يجعل المرء يسعى دائما في فرض وجوده من خلال هويته التي تدفعه إلى الرؤية من منظارها الخاص لا بعين غيره، ويفكر انطلاقا من مكونات العقل الفردي والجماعي الذي ينتمي إليه، وتشكل ضمنه منذ الولادة إلى مرحلة النضج والإبداع، لذلك عجز المستلبون عن الانعتاق والتحرر من أغلال الهويات الأخرى التي هاموا في حبها فلا يبدعون إلا داخلها، الشيء الذي لا يشكل أي تميز فلا يخرجون عن التكرار والاجترار، لأنهم يعانون من داء احتقار الذات وسمو الآخر، ولكن لن يرضى عنهم الغرب حتى يتبعوا ملته مع عدم اليقين والشك في أمثال هؤلاء فمن باع أمته وغير جلده قادر على التغيير في كل وقت وحين.
لا ندري والحديث قد كثر عن الهوية المغربية في إطار التعديل الدستوري على أي هوية نحن؟!
فالدستور يقول إنها إسلامية، والخائضون يقولون إنها حداثية وليبرالية على فهمهم، والبعض يجمعها من المتناقضات، والمتفيهقون منهم يقولون إنها مستمدة من الاسلام المعتدل فيختلفون حول هذا الاعتدال؛ حتى قال كبيرهم إنه إسلام النشاط والمرح والرقص… وآخر يريدها هوية مبنية على الخرافة والدجل والدروشة التي لاتغير من الواقع شيئا وتجعل الناس بطالين وعدميين، فعن أي إسلام يتحدث هؤلاء؟ّ!
إنهم يحرصون على أن تصير الهوية المغربية مجردة من مبدأ الحلال والحرام وأن كل شيء مباح، وأن لا حديث عن السنة والبدعة والعقيدة، وهذا متناف تماما مع شرع الله الذي بين الحلال والحرام والسنة والبدعة، ووضع الضوابط الشرعية التي تهم جميع القيم التي تشكل هوية المسلم القوية الراسخة أينما حلت وارتحلت، يعتز بها إن كان في بلاد غير الإسلام، ولا يشعر بأي غربة في بلاد المسلمين، لأن أصل الهوية مشترك ولا يؤثر الاختلاف في بعض مظاهرها دون جوهرها شيئا.
هؤلاء الذين يشكلون شذوذا في المجتمع يريدون القاعدة أن تخضع للشاذ الذي لا حكم له في الحقيقة الشرعية والعقلية، هاجوا وماجوا وطاشت العقول لما نص الدستور على إسلامية الدولة وارتكاز الهوية على الإسلام، وقالوا أن الفرصة ضاعت من بين أيديهم فهم يعضون أصابع الندم فليموتوا بغيظهم، وسيبقى الإسلام حاضرا في الوجدان، هو الدم واللحم الذي يشكل الهوية وإن ضاعت فترة من الزمن بين كلام جميل مسطور وواقع فاسد منظور أفسده أعداء الهوية ليجعلوا واقع الناس حجة ليكون الدستور مسطرا تحت إكراه هذا الواقع، ولن يكون الأمر كذلك، ومن أنكر فليتأمل في حديث الناس وسيرى الاسلام حاضرا على كل لسان ولن يقبل المغاربة أن يعيد هؤلاء التجربة المريرة التي أسقطها التونسيون بعد سنوات من مسخ الهوية، فانتفضوا بعد نفاد الصبر، فلا يعقل أن يتخلص منها أولئك ويتسلط بها علينا هؤلاء فلا رجوع إلى الوراء!
ونتمنى أن تكون بداية موفقة لترسيخ الهوية الإسلامية الحقة، وتفعيلها في جميع مجالات الحياة الفكرية والإبداعية التنموية والسياسية…واقعا حيا، وإخراجها من رسم السطور وألواح الرفوف، حتى نكون بالفعل قوم لهم هوية ظاهرة واضحة تحقق لهم التميز الحقيقي عن بقية الشعوب التي تعشق هوياتها، لأنه وللحقيقة نلمس احتقارا لهويتنا وذواتنا ونعلن استسلامنا وبسهولة أمام كل وافد، وعند وضع أول قدم في بلاد الغير، سواء على مستوى اللغة أو الدين أو العادات والتقاليد.
إن الإسلام هو الخيط الناظم والوعاء المستوعب لكل تجليات الهوية المغربية والضامن لدوام الاستقرار والسلام والأمان بين أفراد المجتمع على اختلافهم تحت رعاية النظام الملكي الذي يستمد قوته وشرعيته من الإسلام، وقد سعى العلمانيون وأعداء الهوية وخونتها الفصل بينهما حتى ينفردوا بالإسلام وحده والملكية وحدها ليفعلوا بهما ما أرادوا، لكن الله رد كيدهم في نحورهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *