الخطاب الشرعي ومعارك الصفات (1) إبراهيم السكران

تتفق جمهور الطوائف الفكرية المعاصرة على نقد علاقة الخطاب الشرعي بمباحث “الأسماء والصفات الإلهية”، ويرون أن الخطاب الشرعي يقيم معارك لا داعي لها حول قضايا المعطلة والممثلة ونحوهم، في زمن نحن بأمس الحاجة فيه إلى تكثيف الجهود في قضايا المدنية والحقوق والأخلاق.

ولكن هذا الاتفاق العام بين هذه الطوائف الفكرية على إدانة الخطاب الشرعي في علاقته بمباحث الصفات يخفي خلفه تفاوتاً جوهرياً في طرح رؤيتهم حول قضية “الأسماء والصفات والإلهية”، وعبر حوارات متعددة مع هذه الأطياف الفكرية اتضح لي أنهم ليسوا على مرتبة واحدة في النظر لهذه القضية، بل هم -حتى نكون موضوعيين أكثر- يتفاوتون إلى ثلاث مراتب، كل مستوى منها يطرح الإشكالية بمنظور مختلف، وهذه الإشكاليات الثلاث هي: عدم شرعية المبحث، وغياب المخالف، ومغالاة الجهد المبذول.

وللتوضيح أكثر، فالمرتبة الأولى منهم يرون أن مبحث الصفات الإلهية من الأساس هو مبحث ترفي لا قيمة له، وأن اشتغال أئمة السلف به كان من الأصل خطأً تاريخياً يجب ألاّ نكرره.

وأما المرتبة الثانية: فيرون أن هذا المبحث مشروع ومحترم، وأن اشتغال أئمة السلف به كان اشتغالاً مبرراً ويعكس عمق فقههم في دين الله، ولكننا في عصرنا اليوم لا نحتاجه لغياب المخالف فيه، فلم يعد لدينا اليوم “جهم بن صفوان” ولا “المريسي”، ولا يوجد أحد في عالم اليوم كله يتبنى “خلق القرآن”.

وأما المرتبة الثالثة: فيرون أن هذا المبحث مشروع ومبرر، وأن المخالف فيه موجود وحاضر في عالم اليوم، لكنهم ينتقدون الخطاب الشرعي باعتبار أنه أولى هذا الموضوع أكبر من حجمه، فحجْم التعبئة الصفاتية يفوق حجم المخالف في الصفات في عالم اليوم، فهم لا يدْعون إلى إلغائه، وإنما إلى تقليص الجهود العقدية فيه لتتناسب مع حجم المخالف.

هذه ثلاثة مراتب من النقاد يتفاوتون هرمياً في نمط النظرة إلى قضية الصفات، فبعضهم ينكر شرعية المبحث من الأساس، وبعضهم يثبت شرعية المبحث وينكر وجود المخالف، وبعضهم يثبت شرعية المبحث ووجود المخالف لكن ينكر تضخيم الجهود بما يفوق الاحتياج الفعلي.

يبدو لي أنه لا يمكن أن نناقش هذه القضية إلا بفرز المناقشة حسب هذه المراتب الهرمية الثلاث، وهذا ما سنحاوله في الفقرات التالية.

 -شرعية مبحث الصفات:

فأما الإشكالية الأولى المتعلقة بجدوى هذا المبحث العلمي من الأساس فهي تقودنا إلى التساؤل حول قيمة الصفات الإلهية ذاتها، أين تقع “الصفات الإلهية” في جدول أولويات الوحي؟ أو ما الموقع الذي تحتله “الصفات الإلهية” من الإسلام؟

حسناً، حين نتأمل (أركان الإيمان الستة) التي يقوم عليها الدين كله نجد أن أعظم ركن من أركان الإيمان هو (الإيمان بالله) والإيمان بالله ليس إيماناً مجرداً، أي ليس إيماناً بجهل أو تحريف، بل هو إيمان مبني على العلم بالله، وبأسماء الله، وصفات الله التي تليق به والصفات التي لا تليق به، فلو أن إنساناً يؤمن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم لكنه يحرف أوصافه فيصفه بصفات لا تليق به، أو يجحد صفات الكمال التي اختص بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن إيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم يكون إيماناً مقدوحاً فيه بقدر ما جحد من أوصافه صلى الله عليه وسلم، وكل من كان بأوصاف النبي صلى الله عليه وسلم أعلم فإنه في الإيمان به أكمل.

وكذلك (ركن الإيمان بالملائكة)، فلو أن إنساناً يؤمن بالملائكة لكن ينسب إليهم أعمالاً وأوصافاً لا تليق بهم، أو يجحد أوصافهم اللائقة بهم والتي أتت في النصوص؛ فإن إيمانه بالملائكة يكون مقدوحاً فيه بقدر ما جحد، وكل من كان بأوصاف الملائكة اللائقة أعلم كان إيمانه بهم أكمل.

وهكذا (ركن الإيمان بالله) ولله سبحانه المثل الأعلى، فكل من كان بأوصاف الله اللائقة به أعلم كان إيمانه أكمل، وكل من جحد شيئاً من صفات الله اللائقة به نقص إيمانه بقدر ما جحد.

وحين نحاول تحليل مبحث “الصفات الإلهية” نجد أنه ببساطة يدور كله حول ركن الإيمان بالله، أي حول تحقيق الصفات الإلهية اللائقة بالله، والرد على التحريفات والشبه التي تريد جحد شيء من هذه الصفات العظيمة، ولم يأخذ هذا المبحث وزنه عند السلف إلا لتعلقه بأعظم أركان الإيمان وهو الإيمان بالله، وكل مساس بالصفات فهو مساس بالموصوف جل وعلا.

فهل يمكن أن يكون العلم المسؤول عن أعظم أركان الإيمان “الإيمان بالله” مبحثاً ترفياً لا قيمة له؟

ثم إذا تدبر المرء كتاب الله فلا بد أن يلفت انتباهه عناية القرآن الشديدة بتضمين أغلب الآيات شيئاً من أسماء الله وصفاته، فكثير من الآيات تختم بمثل قوله تعالى (السميع البصير)، (عليم خبير)، (غفور شكور)، إلخ. فهل يمكن أن يكون حضور الأسماء والصفات الإلهية بمثل هذه الكثافة في القرآن وتكون شيئاً ثانوياً لا قيمة له؟

ثم إذا تدبر المرء الآيات والسور التي عظمها رسول الله، والتي بين أنها أعظم القرآن، رأى ذلك راجعاً لما تضمنته من الصفات الإلهية، وسنشير لبعض الأمثلة:

فأعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي، وإذا حاول القارئ تحليل مضامين آية الكرسي وجدها من أولها إلى آخرها في توصيف الله سبحانه وتعالى، بل الآية أصلاً مخصصة لسرد أوصاف الله جل وعلا، فذكرت من أوصافه جل وعلا إثباتاً أو سلباً: الألوهية، الحياة، القيومية، نفي السنة والنوم، ملك السماوات والأرض، العلم، نفي الأود، العلو، العظمة.

والحديث الذي بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية أعظم آية؛ كان لي معه قصة طريفة، لنقرأ الحديث سوياً، حيث جاء في صحيح مسلم:

(عن أبى بن كعب قال قال رسول الله: “يا أبا المنذر أتدرى أي آية من كتاب الله معك أعظم؟” قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال “يا أبا المنذر أتدرى أي آية من كتاب الله معك أعظم؟” قال: قلت: الله لا إله إلا هو الحى القيوم. قال” فضرب في صدرى وقال: “والله ليهنك العلم أبا المنذر”) [صحيح مسلم،1921].

وأما قصتي مع هذا الحديث فهو أنني حين قرأته لأول مرة، كنت مشدوداً لجواب أبي بن كعب، كيف عرف أبيّ بمحض تأمله الشخصي أن آية الكرسي هي أعظم آية؟

كنت أقول لاحقاً ربما لو سئلت أنا مثل هذا السؤال لدار في خلدي أنها “آية الدين” لما فيها من تنظيم الحياة العامة، أو آية “يا أرض ابلعي ماء ويا سماء اقلعي” لما فيها من روعة البيان التصويري الأدبي، أو نحوها من الآيات، لكن أن تكون آية الكرسي فليس لدي أي خلفية توحي لي بأنها أعظم آية، لكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما كانت تربيتهم على يدي رسول الله علموا أن “الأسماء والصفات الإلهية” هي أعظم موضوع من موضوعات القرآن، وبالتالي فالآية التي تتضمن ذلك ستكون حتماً هي أعظم آية، وهذا الحديث لا أعرف حديثاً في التدليل على عبقرية فقه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعمق فقههم في دين الله وتبحرهم في حقائق الوحي أكثر منه، ولذلك ظهر في هذه القصة التي رواها أبيّ شدة عجب النبي صلى الله عليه وسلم وفرحه بجواب أبيّ حتى أنه ضرب في صدره وقال “ليهنك العلم”، ولاحظ أنه خص “العلم” أي أن معرفة أن الأسماء والصفات الإلهية هي أعظم موضوع من موضوعات القرآن يدل على علم صاحبه.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *