الرقابة على تحصيل الموارد الجبائية إبراهيم بوحمرة

النظام الجبائي المالي في الإسلام

قبل الولوج في موضوع الرقابة على تحصيل الموارد الجبائية في النظام المالي الإسلامي لابد من الإشارة إلى أن المال هو مال الله سبحانه وتعالى؛ وأن الإنسان مستخلف فيه يقول عز وجل: آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه الحديد:7، ومقتضى هذا الاستخلاف أن يستشعر المسلم دائما سواء أكان المسلم فردا عاديا أو حينما يكون واليا لأمر المسلمين أنه أمين على هذا المال وإنفاقه في الحقوق التي شرعها الله سبحانه وتعالى، وقررها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يكتف النظام المالي الإسلامي بتحصيل أموال الموارد الجبائية بأنجع السبل وأقومها، وإنفاق المال العام وترشيده وفق مبدأ العدل والحق بل أوجد نظاما دقيقا للرقابة على الموارد الجبائية ووجوه صرفها وفق القواعد والضوابط المقررة في الشريعة الإسلامية.
-1 تعريف الرقابة في الاصطلاح اللغوي والشرعي
في اللغة: هي المحافظة والانتظار، والرقيب الحفيظ(1 ) والحارس والموكل والأمين( 2).
في الاصطلاح الشرعي: وردت عند المفسرين بمعناها اللغوي فهي عندهم المحافظة والانتظار، كما في قوله تعالى: إن الله كان عليكم رقيبا النساء:1.
قال الإمام البغوي رقيبا أي حافظا( 3)، وقوله تعالى: إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر القمر:26 «فارتقبهم» بمعنى «فانتظر ما هم صانعون»(4 ).
ويمكن تعريف الرقابة المالية طبقا للشريعة الإسلامية بأن «الرقابة هي العلم الذي يبحث في مراقبة الحقوق والالتزامات في ضوء الشريعة الإسلامية بما تحويه من قواعد تتعلق بالمال العام جمعا وإنفاقا»( 5)، وبذلك فالرقابة شرعا تستلزم وجوب اتباع جميع ما أقرته الشريعة الإسلامية من قواعد وأنظمة وتعاليم وأحكام تهدف إلى المحافظة على المال العام وصيانته وتنميته، سواء في مجال جمعه من موارده التي أقرها الشرع، أو في مجال إنفاقه في مصارفه المشروعة، مع استمرار عمليات المتابعة والإشراف لتجنب الوقوع في الأخطاء، وتلافي التقصير والخلل، ومعاقبة المسيء وردعه وزجره(6 ).
-2 الرقابة على جباية وتحصيل الزكاة
أمر الله تعالى ولاة أمور المسلمين بأخذ الزكاة من أموال المكلفين، والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة وأعمال الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم كما مر معنا في مبحث الموارد الجبائية الثابتة، وذكر الله عز وجل في محكم تنزيله السعاة القائمين على أمر الزكاة جمعا تفريقا وسماهم العاملين عليها كما في قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها التوبة:59 قال الإمام ابن جرير الطبري «والعاملين عليها» «وهم السعاة في قبضها من أهلها ووضعها في مستحقيها»(7 ).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث السعاة لأخذ الزكاة، فقد روى الإمام البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال «اعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم»(8 ).
قال الحافظ ابن حجر: «استدل بهذا الحديث على أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها إما بنفسه، وإما بنائبه، فمن امتنع منها أخذت منه قهرا»(9 ).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتولى بنفسه مراقبة الجباة والعاملين على الأموال، ففي الصحيحين عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل عاملا فجاءه العامل حين فرغ من عمله فقال: يا رسول الله، هذا لكم، وهذا أهدي لي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك فنظرت أيهدى لك أم لا؟ فوالذي نفس محمد بيده لا يغل منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه…» (10 ).
وقد سار على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلفاء الراشدون في مراقبة السعاة والقائمين على جباية الزكاة.
وعموما فجمع الزكاة وتحصيلها وصرفها لمستحقيها هو أحد واجبات الدولة الإسلامية، لذلك خصتها بتوظيف جهاز إداري منظم يقوم على هذه الفريضة، ومن واجباتها أيضا مراقبة السعاة القائمين على جمع الزكاة ممن تجب عليهم، ومراقبة صرفها إلى من تجب لهم، ومحاسبتهم إذا قصروا أو فرطوا في القيام بالوظائف التي أنيطت بهم، والهدف من ذلك هو دعم بيت المال ليؤدي أعماله التي تتعلق بمصلحة الأمة على خير وجه.
-3 الرقابة على باقي الموارد الجبائية الدورية الثابتة
وهي من الموارد الرئيسية التي تشكل إلى جانب الزكاة دعامة النظام المالي الإسلامي وتتكون من الجزية والخراج والعشور.
أ: الرقابة على تحصيل جباية الجزية:
اتفق الفقهاء على أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى ومن دان بدينهم( 11)، ومن تفرع عنهم كالصائبة والسامرة ويعامل المجوس معاملة أهل الكتاب(12 ).
لقد تم تقسيم الأمصار الكبيرة في عهد الخلفاء الراشدين إلى مناطق إدارية كالكوفة والبصرة وبغداد والشام ويعين الإمام مسؤولا عن كل مصر ممن يوثق بدينه وأمانته، ويصير معهم أعوانا يجمعون إليه أهل الأديان فيأخذ منهم الجزية كل حسب طبقته، فإذا اجتمعت إلى الولاة حملوها إلى بيت المال( 13). وقد مارس الخلفاء الراشدون رقابة دقيقة على جباية الجزية وذلك بإحصاء عدد أهل الذمة بأسمائهم وصفاتهم ولا يحل للوالي أن يدع أحدا من الذميين إلا أخذ منهم الجزية… ولا يحل أن يدع أحدا ويأخذ من واحد لأن دماءهم وأموالهم إنما أحرزت بأداء الجزية( 14).
ينبغي على عامل الخراج أن يأخذ ما تحتمله الأرض كأساس لتقدير ضريبة الخراج بعين الاعتبار، وذلك حتى لا يقع الظلم على مالك ولا يظلم الزراع وقد يختلف هذا من أرض إلى أخرى وحسب ما تحتمله كل أرض( 15).
مما سبق يتبين أنه تبعا لتلك المعايير والأسس فإن مبدأ تقدير الخراج يجب أن يأخذ بعين الاعتبار القدرة التكليفية للممول من جهة، ونوعية الأرض والمحصول من جهة أخرى، فكلما زادت كمية الإنتاج زاد ما يفرض على الأرض الخراجية، وفي ذلك زيادة الدخل لبيت مال المسلمين، وتحقيق المصلحة العامة للمسلمين، وهكذا فإذا روعيت الأسس والمعايير الآنفة الذكر أثناء الرقابة على جباية الخراج، وكان المراقبون من أهل الصلاح والعفاف والدين، فإن هذا المورد سيوفر مداخيل مهمة لبيت المال تصرف في المصالح العامة للدولة الإسلامية.
ب: الرقابة على تحصيل جباية العشور:
اختلف الفقهاء في مقدار ما يؤخذ من أهل الذمة وأهل دار الحرب إذا دخلوا دار الإسلام على النحو التالي:
القول الأول: هو أن تؤخذ العشور من المسلمين ربع العشر ومن أهل الذمة نصف العشر، ومن أهل الحرب العشر من كل ما مر به التاجر على العاشر وكان للتجارة(16 ).
القول الثاني: قال الإمام مالك إن تجار أهل الذمة الذين لزمتهم بالإقرار في بلدهم الجزية أن يؤخذ منهم العشر إلا ما يسوقون إلى المدينة خاصة، فيؤخذ منهم فيه نصف العشر… وحكم الحرب إذا دخل بأمان حكم الذمي(17 ).
ومن أهم الإجراءات الرقابية التي يتخذها العاشر:
أ: بما أنه لا يؤخذ العشر من الذمي إلا مرة واحدة في السنة، وكذلك الحربي عند بعض الفقهاء، فيجب على العاشر أن يكتب له كتابا بما أخذ منه، ووقت الأخذ، وقدر المال ليكون حجة له حتى لا يؤخذ منه عشر ما أدى عشره قبل انقضاء الحول(18 ).
ب: عدم تفتيش أحد لبيان ما إذا كان يخفي مالا أم لا، والدليل قول زياد بن حدير: «بعثني عمر رضي الله عنه على العشور فأمرني ألا أفتش أحدا»(19 ).
ج: إذا مر المسلم على العاشر بغنم أو بقر أو إبل فقال إن هذه ليست سائمة أحلف على ذلك، فإذا حلف صدق وكف عنه، وكذا لو مر بتمر فقال هو من نخلي فلا يؤخذ منه العشر، إنما العشر في الذي اشتري للتجارة(20 ).
مما سبق يتبين أن النظام المالي الإسلامي يتميز بوجود جهاز إداري دقيق ومحكم للرقابة على المال العام، وكيفية جباية الموارد وتحصيلها، وأوجه إنفاقها، كل ذلك من أجل حفظ المال العام وصيانته، لأن الحفاظ على المال من أعظم مقاصد الشريعة الإسلامية، يقول أبو حامد الغزالي في هذا السياق: «ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليه دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم»( 21). ويجب على الإمام العادل أن يصرف المال في المصالح العامة مع اعتماد فقه الأولويات، قال العزّ بن عبد السلام: «…يقدم الأهم فالأهم، والأصلح فالأصلح… ويصرف ما وجده من أموال المصالح العامة في مصارفها أصلحها فأصلحها»( 22).
وتجدر الإشارة ههنا إلى أن هناك ثمة رقابة على تحصيل الموارد غير الدورية وغير الثابتة مثل الفيء والغنائم، إلا أن هذين الموردين مؤقتين لأنهما متعلقان بالفتوحات الإسلامية، وكذا الرقابة على تحصيل الضرائب الإسلامية، غير أن جباية هذا المورد مرتبط أساسا بظروف استثنائية كما بينا ذلك في المطلب المتعلق بالتوظيف المالي.
————————-
(1 ) مختار الصحاح، للرازي، ص:145.
(2 ) لسان العرب، لابن منظور (6/199).
(3 ) تفسير البغوي، المسمى معالم التنزيل، للإمام البغوي (1/562).
(4 ) نفس المصدر (4/325).
(5 ) ندوة النظم الإسلامية المنعقدة في أبو ظبي شهر صفر سنة 1405/ نونبر 1984.
(6 ) الرقابة المالية في الفقه الإسلامي، للدكتور حسن راتب يوسف ريان، بتصرف.
(7 ) تفسير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لابن جرير الطبري (14/310).
(8 ) صحيح البخاري، كتاب الزكاة: باب وجوب الزكاة (1/331).
(9 ) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر (4/354).
(10 ) صحيح البخاري، كتاب الإيمان والنذور، باب كيف كان يمين النبي صلى الله عليه وسلم (4/1668)، وصحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب تحريم هدايا العمال (2/282).
(11 ) بدائع الصنائع للكاساني (9/428).
(12 ) كتاب الخراج، لأبي يوسف، ص:404؛ والأحكام السلطانية، للماوردي، ص: 164.
(13 ) المغني، لابن قدامة (12/656).
(14 ) كتاب الخراج، لأبي يوسف، ص:407.
(15 ) كتاب الخراج، لأبي يوسف، ص:325؛ والأحكام السلطانية، للماوردي، ص:169.
(16 ) كتاب الخراج، لأبي يوسف، ص:428؛ وكتاب الأموال، لأبي عبيد، ص:549؛ والمغني، لابن قدامة (12/642).
(17 ) بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد القرطبي (2/783).
(18 ) المغني، لابن قدامة (12/685).
(19 ) كتاب الخراج، لأبي يوسف، ص:432.
(20 ) نفس المصدر السابق، ص:430.
(21 ) المستصفى من علم الأصول، للغزالي (1/417).
(22 ) القواعد الكبرى، الموسوم بقواعد الأحكام في إصلاح الأنام، للعز بن عبد السلام (1/114).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *