يتشدق الكثير من أدعياء الحداثة (الغربية) والليبرالية بأنهم منخرطون باعتزاز في مشروع صياغة المجتمع المغربي الحداثي، وعلى رأسه صناعة وتقديم الدعم الكامل لجعل المرأة المغربية امرأة حداثية متحررة من أي قيد يمنعها من التمتع بحريتها الفردية، وهم في ذلك يزعمون أنهم يواجهون جدران التحكم في مصير المرأة التي بناها تشدد من ينطلق من ثقافة إسلامية بدوية رجعية قديمة!!
وما يزيد الطين بلة، ويجعل إعلان الدعم الكامل للمرأة الحداثية أمرا رسميا في بلد البيعة وأمير المؤمنين، هو تصريح عدد من المسؤولين الساميين في مراكز القرار بالمغرب وعلى رأسهم وزير الاقتصاد والمالية (صلاح الدين) مزوار يوم أعلنها مدوية في برنامج حوار حيث قال: “إننا كحزب ننتمي إلى صف الليبرالية الاجتماعية.. نريد أن نحدد هويتنا بشكل واضح.. نحن نرفض أن يقحم الدين في السياسة، نحن نرفض أن يستعمل الدين في السياسة، نحن نرفض ازدواجية اللغة وازدواجية الخطاب.. نحن سنعمل على تكوين أكبر تنظيم للمرأة في المغرب، المرأة الحداثية، لأننا نعتبر بأن أكبر تحد للمغرب هو تربية الأجيال المقبلة، وتربية الأجيال المقبلة المرأة تلعب فيها دورا أساسيا، لهذا سنعمل بكل قوة مع إخواننا الذين ينتمون إلى الصف الحداثي في هذه البلاد لمواجهة الفكر الظلامي، لمواجهة كل التوجهات التي من شأنها أن تعيد المغرب سنوات إلى الوراء.. “.
هذا الكلام صدر عن الوزير الحداثي في برنامج حوار بتاريخ 09-02-2011، واليوم يعيد قوله بعد التحالف الذي أبرمه مع سبعة أحزاب وسمي بـ”التحالف من أجل الديمقراطية” خلال ندوة عقدت بالدار البيضاء، حيث قال:
“نحن من جهتنا، لن نعيد المغرب إلى القرن التاسع عشر، ولن نحول المجتمع إلى كائن خائف ومرتعب ومتخلف، نحن نؤمن بمشروع لتطوير البلاد، مشروع مجتمع حر تكون فيه المرأة تتمتع بكل حريتها وتقود بدورها تحرير مجتمعها.. أعطوني اسما لامرأة من حزب العدالة والتنمية لا تضع الحجاب؟”.
لا شك أن كلام الوزير صلاح الدين مزوار يحمل الكثير من الرؤى والمشاريع التي انخرط فيها وأشباهه لعلمنة المغرب قيما وسلوكيات وقوانين فرضت بحد التسلط والتبعية للغرب، وأكبر مشاريعه التي لا يبرح يصك بها آذان المغاربة الأحرار من التبعية للقيم الغربية المادية العلمانية الإباحية؛ أنه سيعمل والصف الحداثي في هذه البلاد على تكوين أكبر تنظيم للمرأة الحداثية لمواجهة الفكر الظلامي..
لا إسلام في السياسة
لكن قبل أن نعلق عليه ونبخس بضاعته المستوردة من وراء البحار بغير حق، والمهربة في غفلة أحيانا من أهل صيانة البلاد من الدخيل وشره (العلماء والشرفاء)، وأحيانا أخرى بفرضها بالحديد والنار من قبل من يعتلون مراكز القرار في بلادنا. لابد من الإشارة إلى أن الوزير في مشروعه هذا ينطلق من منظومة فكرية حداثية علمانية ترفض أن تدبَّر الشؤون العامة للمغاربة وفق أحكام الشريعة الإسلامية بدليل قوله: (نحن نرفض أن يقحم الدين في السياسة، نحن نرفض أن يستعمل الدين في السياسة)، وقوله: (لن نعيد المغرب إلى القرن التاسع عشر).
ولا أدري أي ثقة في النفس عند هذا الذي يريد بتحالفه أن يرضى عنه المغاربة المسلمون فيسلمونه زمام سياستهم وتدبير شؤونهم، وهو يبغي تنحية أحكام الإسلام عن الحياة العامة، وأن لا يكون للإسلام نصيب في تدبير شؤون الناس.
ثم أي غفلة تدفعه للتشدق بالمشروع الحداثي وقد أبانت الحركات المجتمعية التغييرية في البلدان الإسلامية أن لا بديل عن الإسلام كمصدر للتشريع الدستوري والحقوقي والقانوني، بل لماذا يصر الحداثيون على مسارهم في التبعية المطلقة للغرب العلماني، وقد أبانت أيام توليهم لسياسة بلادنا عن عجز كبير في تدبير شؤون البلاد رغم مساعدات وإعانات الدول الغربية لمشاريعهم المفلسة!
ألا يدرك الوزير الحداثي أن المغرب في حاجة إلى التحديث لا إلى الحداثة، محتاج إلى تحديث اقتصاده وماليته، محتاج إلى تحديث صناعته وفلاحته، محتاج إلى تحديث أطره ورجال سياسته، محتاج إلى تحديث بنياته التحتية وإلى تسليم زمام أموره لمن يحمل هم منفعة هذا البلد، الرجل الأمين العدل والنزيه المتدين بالأخلاق الإسلامية الراقية، لا إلى الرجل الذي يحمل برنامجا سياسيا كل همه سلخ المجتمع عن دينه وقيمه، وجَمعِ الثروات وتهريبها للخارج!!
ألا يعلم الوزير أن الأمم التي تحافظ على قيمها وتاريخها ولغتها وتحفظ لرجالها قدرهم، هي التي تستطيع أن تبني مستقبلا زاهرا، لأن الشعب سينخرط مباشرة في أي مشروع كان هذا منطلقه، لأنه يثق في دينه وقيمه وأحكام ربه.
وقد صرح الأمين العام للتجمع الوطني للأحرار في برنامج نقط على الحروف الأسبوع الماضي، عند سؤاله عن الانفلات الأمني الخطير الذي يعيشه المجتمع؟ أن رجال الأمن والقانون لا ينفعان من دون تربية ووعي وأخلاق.
فإن كان السيد الوزير يقصد هذه القيم من المنظور العلماني الغربي، فالواقع الغربي يرد عليه، لأن عدد الجرائم باختلاف أنواعها تحطم الأرقام القياسية في الغرب، وإلا فنخلص أن التربية والأخلاق الإسلامية والوعي بالحقوق والواجبات المؤطرة بالشرع هي الكفيلة لمحاربة السلوكات المنحرفة التي تتسبب في انعدام الأمن.
المرأة بدون حجاب طريق الحداثة!!
اعتبر السيد مزوار أن لبس المرأة المسلمة الحجاب ينافي المشروع المجتمعي الحر، وأن ذلك تخلفا ورجعية، على أساس أن المتدينين يفرضون على نسائهم وضع الحجاب!! ونسي الوزير أو تجاهل أن من أمر النساء بالحجاب هو الله سبحانه وتعالى، وإن كان يشك في الأمر فليرفع سماعة هاتفه وليتصل بالسيد يسف رئيس المجلس العلمي الأعلى؛ وسيبين له مذهب السادة المالكية في هذا الباب.
وأما إن كان الوزير يتفاخر بدفاعه على المرأة -التي اتخذها جل العلمانيين مطية للوصول إلى مآربهم- وأن حلمه هو تكوين أكبر تنظيم للمرأة الحداثية لمواجهة الفكر الظلامي، فأي امرأة حداثية يقصد؟ وهل الحجاب والتعدد وقوامة الرجل على المرأة، فكر ظلامي ينبغي أن يحارب بنور الحداثة التي يعد به المغربيات؟
لا شك أن الوزير المحترم يدافع على الحداثة باعتبار أن الانخراط في مشروعها نافع للمجتمع، فهل عري المرأة وابتذالها نافع للمجتمع؟
وهل ارتفاع عدد العوانس في المغرب يعتبر من صميم المشروع الحداثي؟ والمغرب يسجل أرقاما مهولة في هذا الصدد، حيث أصبحت أكثر من 3 نساء مغربيات من أصل 10 تنتهي فترة خصوبتهن دون أن يتزوجن، وأشارت دراسات أن حوالي 10% من المغربيات يهددهن شبح العنوسة والرقم في تصاعد مستمر.
والجواب يمكن معرفته بزيارة أماكن الترفيه المتسيبة، والسؤال عن عدد العلاقات الجنسية المحرمة عند العوانس، خصوصا إذا علمنا أن بعض منظري الفكر الحداثي العلماني يصرحون أن لا ضرر في إقامة علاقة جنسية بين شاب وشابة خارج مؤسسة الزواج (عبد الحميد أمين نائب رئيسة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان).
ومن الأرقام الصادمة المسجلة في هذا المجال والتي تبرز الوجه الحداثي للمجتمع في هذا الصدد أن قرابة ربع مليون امرأة في المغرب يعشن بمفردهن. (المندوبية السامية للتخطيط).
فهل يبشرنا السيد مزوار الذي يريد أن يصبح رائد الدفاع عن المشروع النسوي الحداثي بأكثر من هذا؟
إن المرأة الحداثية في المغرب لها تمظهرات تتميز بها عن غيرها، وإلا فالتفوق العلمي والثقافي والسياسي لا يراهن أحد أن تغطية المرأة لعورتها يتسبب لها في نقصه، أهم هذه التمظهرات:
– العزوف عن لبس الجلباب والتهاون في الحجاب، والاستهزاء به..
– الدفاع عن القيم والتعاليم العلمانية والحداثية من قبيل: الحرية المطلقة (خديجة الرياضي، أمينة بوعياش..)، الحرية الجنسانية والزهد في العفة (حكيمة حميش)، السينما والتلفزة المتسيبة أخلاقيا (زكية الطاهري، سناء موزيان..)، تقنين بيع وشرب الخمور (خديجة الرويسي)، تبني القيم الشيوعية (نزهة الصقلي)، الظهور عارية على الصفحة الرئيسية لمجلة (نادية لاركيت)، المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة والتي تقتضي تفوق المرأة على الرجل في الحقوق (فوزية العسولي)، وغيرهن كثير.
وللأسف لم تسجل واحدة من هؤلاء النسوة شرفا للمغرب فيما يخص التقدم والتطور والازدهار.
وعودة إلى الحجاب، فقد حاول الوزير في برنامج نقط على الحروف أن يلطف كلامه عن تخلف ورجعية المرأة المتحجبة، بقوله أن الحجاب هو حرية فردية، وهو ما يلزم منه أن احترامه للألبسة هو من منطلق فكر علماني، وليس من منطلق شرعي فيه الاستسلام لله، وبناء على هذا يمكن لحكومته أن تفرض في أماكن وصور معينة عدم لبس الحجاب، استنادا إلى القانون، وهذا ما وقع في فرنسا.
والحقيقة أن حاملي هذا الفكر ضد الحجاب كتشريع رباني تتقرب به المسلمة إلى ربها، وتحفظ به عفتها.
إن المشروع الحداثي الذي يبشرنا به العلمانيون في المغرب لا يمكن أن يؤتي أكله ولو سلمنا جدلا تبني المغرب له، ولا يمكن أن نقطف ثماره كما هو الحال في الغرب، لأننا ببساطة لا نملك أطرا نزيهة تحترم القانون وتتفانى في خدمة الصالح العام ولو على حساب الصالح الخاص، بل سنغرق في التفسخ الاجتماعي والقيمي والأخلاقي مثل ما يعيشه الغرب بالإضافة إلى الفقر والاستغلال والتبعية، فهل يرضى الأحرار الحقيقيون بما يدعو إليه زعيم قطب الحداثيين في المغرب؟