ليس صديق المرء من لا يصدقه
إن مشكلة إدريس أبايا أنه دخل إلى حلبة النزال وأقصى ما يشغل ذهنه ويقض مضجعه، هو الانتهاء إلى تقرير -بأي وسيلة كانت- أن مصطفى العلوي لم يخطئ في حق عثمان رضي الله عنه ولم يعرض به. مما جعل شأنه في هذا الأمر كالغريق الذي يمد يده إلى أي شيء، حتى ولو إلى شيء يغرق به.
وددت صدقا من إدريس أبايا أن تكون نصرته لمصطفى العلوي عونا له على غي نفسه، وفي غير تأييده على بهته وافتراءاته، نصرة تشد بها أزره، وتصرفه عن مواطن الظلم، وتكفه عن العدوان، وتثنيه عن معرة الإثم. حقا إن نصرة الإخوان خلق رفيع وأدب عظيم ومقام سام يتطلع إليه كل مسلم، لا سيما وقد دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: “انصر أخاك ظالما أو مظلوما” لكن دون صد عن السبيل؛ أو اجتماع على شر؛ أو إملاء ضلال.
فقد قال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إن كان ظالما كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه عن الظلم فإن ذلك نصره”(1)، وعند الترمذي قوله: “تكفه عن الظلم فذاك نصرك إياه”(2). فإنه لا صداقة مع مجاملة على حساب الحق، أو خَلْقِ أعذار كاذبة وتبريرات غامضة من نسيج الخيال. تماما كالتي عمد إليها إدريس أبايا وهو يخبط خبط عشواء بإثارة مواضيع جانبية تجرنا إلى جعل موضوع نقاشنا هو مصطفى العلوي، بدل أن يكون هو عثمان بن عفان رضي الله عنه. في محاولة منه بائسة قصد إبعادنا عن نقط الخلاف التي بيننا؛ والتي يدور موضوعها حول مدى صحة أو بطلان ما ادعاه ونسبه مدير جريدة الأسبوع الصحفي للخليفة عثمان رضي الله عنه في مقاله الكاسد “البيزنس.. قتل خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم”(3)؛ وعن مدى ثبوت أو سقوط دعوى تجريم مصطفى العلوي بالافتراء الكاذب على ثالث الخلفاء الراشدين.
لقد أغفل إدريس أبايا هذين الأمرين، وأكدت عليه القول بخصوصهما بإلحاح. ومع ذلك سكت عنهما وأعرض عن الخوض فيهما، مما يجعل تجاهله هذا يعد إقرارا بجريمة موكله وإعلانا عن انهزامه. فإن أبى إلا العناد فليجب عنها إن استطاع، إنا لمنتظرون.
دحض تهمة ظالمة وتهويل باطل يقوم على الهوى
لقد عمد إدريس أبايا أكثر من مرة إلى إثارة مسائل جانبية تفوح منها رائحة الجهل بالعلوم الشرعية؛ كمثل مسألة دعواه اتهامي مصطفى العلوي بالتشيع(4). وهذا جهل واضح ناتج عن عدم تفريق إدريس أبايا بين إطلاق الحكم ومسألة الحكم على معين. حيث ظن أن قولي “فأول ما يثير انتباه متصفح المقال ويشد نظره عند قراءة هذا النص، هو قوله علي كرم الله وجهه.. هذا لعلي رضي الله عنه بقوله كرم الله وجهه دون غيره من الصحابة، هو تخصيص لا وجه له من الشرع، إلا عند غلاة أهل البدع من الشيعة الروافض”(5). فظن أن قولي هذا يتضمن الحكم على مصطفى العلوي بالتشيع. مع أني لا أتجاوز فيه حد التنبيه عن أن هذا الفعل هو من فعل غلاة أهل البدع من الشيعة الروافض. وليس فيه أدنى إشارة يفهم منها أن مدير الجريدة متشيع أو فيه تشيع، إلا من كان جاهلا بقواعد أهل السنة في الأحكام. وكما هو مقرر عند أهل السنة أنه ليس كل من قال أو فعل بدعة كان مبتدعا إلا إذا قامت عليه الحجة الرسالية. ومصطفى العلوي هو أقل من أن ينسب إلى تشيع أو إلى تسنن، لأنه يجهل أصول الشيعة كما يجهل أصول أهل السنة، والجاهل لا مذهب له.
أما مسألة أن مصطفى العلوي اجتهد، فهو بين الأجر والأجرين، كما هو مثبت في قول إدريس أبايا: (فمصطفى العلوي قرأ واجتهد في قراءته مستنتجا رأيه الذي يؤجر عليه إن أصاب مرتين، ومرة إن أخطأ)(6).
اجتهد مصطفى العلوي؟!
صدق من قال: كثرت الهَمِّ تضحك.
فعلى أي أساس اجتهد؟
هل مصطفى العلوي بذل جهده بالنظر في أسانيد الروايات والأخبار التي اعتمدها من كتاب “الفتنة الكبرى”، حتى حصل له العلم بصحيحها من سقيمها ثم بنى عليها رأيه واستنتاجه في عثمان بن عفان رضي الله عنه؟!
فهذا هو الذي يصدق عليه قولك اجتهد. وهذا العمل يستلزم منه معرفة طرق التصحيح والتضعيف، وأن يكون عالما بحال الرواة الثقات منهم والمتهمين، والمعروفين والمجهولين. حتى يتسنى له تمييز المختلق الموضوع من الصحيح؛ أو على الأقل يكون قد استعان بأهل الاختصاص والمعرفة بهذه الصنعة.
ومصطفى العلوي لم يدع هذه المرتبة، ولا فكر في العمل بمقتضاها؛ وفاقد الشيء لا يعطيه، وبالتالي فهو ليس مجتهدا، لأن المجتهد الذي قوله بين الأجر عند الخطأ، والأجرين عند موافقة الصواب، يستلزم فيه أن يكون جامعا لآلة الاجتهاد. وإلا كان مُخاطرا بنفسه. ولقد جاء في الحديث الذي في السنن: “القضاة ثلاثة: قاض في الجنة، واثنان في النار، قاض عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، وقاض عرف الحق فقضى بخلافه فهو في النار، وقاض قضى على جهل فهو في النار”.
والفائدة المستفادة من هذا الحديث في شأن القاضي الذي قضى على جهل فهو في النار، هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يهتم بمسألة كونه أصاب الحق أم لم يصبه. فكونه قضى بجهل فهذا يكفي في أن يكون آثما بغض النظر عن كونه وافق الحق أم لم يوافقه. أنظر قول النووي في شرح صحيح مسلم: “فأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم، فإن حكم فلا أجر له بل هو آثم، ولا ينفذ حكمه، سواء وافق الحق أم لا؛ لأن إصابته اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي فهو عاص في جميع أحكامه، سواء وافق الصواب أم لا)(7).
وقال الصنعاني في كتابه سبل السلام: (أن من حكم بجهل وإن وافق حكمه الحق فإنه في النار)(8).
فهل مصطفى العلوي بين الأجر والأجرين، أم هو بين الوزر والوزرين؟
لقد ذكرتني أقوال إدريس أبايا بقول أحد سلفنا الصالح رحمهم الله: “لو جادلني ألف عالم لغلبتهم، ولو جادلني جاهل لأتعبني” بل أضيف “وغلبني”. وإليك قول الناظم:
هواك أعمى فلا تجعله مُتبَعاً *** لا يعتسف بك عن بيضاء مسلوكه
اتركه وامش على آثار عقلك في *** محجة مثلها ليست بمتروكه
فالعقل هاد بصير لا يزيغ إلى *** بصيرة عن سداد الرأي مأفوكه
ومن يقده هواه في خزامته *** فذاك بين ذوي الألباب أضحوكه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- صحيح البخاري تحت رقم 6438.
2- صحيح، أنظر الإرواء 2449.
3- جريدة الأسبوع الصحفي العدد 557/994.
4- مقال “دفاعا عن الأسبوع الصحفي” الحلقة السادسة العدد 586/1023.انظر الحلقة الأولى مقال “دفاعا عن الأسبوع الصحفي” من الجولة الثانية العدد 592/1029.
5- “تطهير الذهان من افتراءات مدير جريدة الأسبوع الصحفي” على الخليفة الراشد عثمان بن عفان، الحلقة الأخيرة. جريدة السبيل العدد 70.
6- مقال “دفاعا عن الأسبوع الصحفي” الحلقة السادسة العدد 583/1020.
7- 6/148باب أجر الحاكم إذا اجتهد.
8- 6/387 باب شرط القاضي.
9- سورة الدخان الآية 41.