لم تكد تمر سوى أيام قليلة على الاجتماع السري التاريخي الذي تمخض عنه اتفاق جامع على الخطوط العريضة للعمليات المسلحة وخريطة الاغتيال حتى ظهرت معالم تصدعات جديدة تهدد لحمة التحالف المبرم بين «تنظيم الجهاد» و«الجماعة الإسلامية» وهذا ما لم يتوقعه المنظر المحنك «محمد عبد السلام فرج» نفسه؛ حيث سرعان ما دبت الخلافات بينه وبين قادة «الجماعة الإسلامية»؛ فتحولت العلاقة بينهما من علاقة اندماج كامل وانصهار في بوتقة الهدف المنشود إلى مجرد تعاون هامشي، ومعاهدة على الاندماج عندما يحين وقت القيام بالعملية.
بادر القائد «محمد عبد السلام فرج» بداية إلى احتواء التصدع ورتق جيوب مكامن الخلاف المحتدم حول مسودة الاغتيال والانقلاب، لكن قرارات التحفظ العاجلة لم تمهله وباغتته صبيحة يوم 5 سبتمبر 1981؛ فقد كان رأس الأخير مطلوبا لدى الأجهزة الأمنية، وكان اسمه على رأس قوائمها، لكن الأخير نجح في الهرب والانفكاك من مراقبة الأجهزة الأمنية، كما تزامنت مذكرة إحضار محمد عبد السلام فرج أيضا مع صدور مذكرة إحضار مشابهة تضم أسماء «أعضاء مجلس شورى الجماعة الإسلامية»، وقد تمكنت هي الأخرى من الهرب والنجاة ولم يعتقل منهم سوى «طلعت فؤاد قاسم».
وتوجه قادة الجماعة الإسلامية الثمانية إلى القاهرة لمقابلة «محمد عبد السلام فرج» وأركان قيادته للبت في التطورات الأخيرة والاتفاق على رد يعاجل شرارة المواجهة الأولى التي أشعل أنوار السادات فتيلها عبر قرارات التحفظ.
وفي الاجتماع ألح قادة الجماعة الإسلامية على ضرورة تحرك «تنظيم الجهاد» بسرعة ليباشر تنفيذ العملية المزمع تنفيذها مادام أن «السادات» قد بادر بنفسه وأقدم على رمي الكرة في ملعب الجماعات الإسلامية.
ولم يفت القادة الثمانية للجماعة الإسلامية أن يحذروا قادة «تنظيم الجهاد» من الوقوع في نفس الخطأ القاتل الذي سبق ووقع فيه «الإخوان المسلمون» أيام المرشد الهضيبي عندما ترددت الجماعة في استخدام القوة ضد العبد الخاسر جمال الذي استثمر فرصة السلمية والانبطاح والاعتدال المزعوم الذي نادى به الهضيبي للبطش والتنكيل بأطياف الجماعات الإسلامية على مختلف مشاربها المنهجية دونما تمييز بين صراحة سيد قطب وبين مداهنة الهضيبي؛ فالاثنان كلاهما سيان في ميزان الكارهين لما أنزل الله.
وافق قادة «تنظيم الجهاد» على المقترح العاجل للجماعة الإسلامية، لكنهم بالمقابل ارجأوا الاتفاق على تاريخ وتوقيت التحرك لأسبوع إضافي وان كان «عبد السلام فرج» قد أفصح عن ملامح القرار الذي لخصه في جملة من العمليات المسلحة تبدأ بشن حملة اغتيالات واسعة النطاق لرؤوس الحكم في البلاد، وعلى رأسهم «أنوار السادات»، ومن ثم الهجوم على بعض الثكنات العسكرية للاستحواذ على عتادها واستمالة القائمين عليها، وتنتهي بالسيطرة على مديريات الأمن والإدارات الحيوية الحساسة بالبلاد، وقد تقرر في الاجتماع على أن يقيم «أسامة حافظ» بالقاهرة ليكون حلقة الوصل بين «تنظيم الجهاد» و«الجماعة الإسلامية» التي كان قادتها يعيشون هاربين ومتفرقين في الصعيد.
وبالفعل خلال أسبوع واحد فقط قرر «محمد عبد السلام فرج» التحرك لأجل تنفيذ عملية اغتيال «السادات» عبر عدد من ضباط الجيش التابعين له، واستقر الاختيار لمباشرة الاغتيال على الضابط العسكري «خالد شوقي الاسلامبولي» المنفذ للعملية على الوجه المشهور والمعروف في مقاطع الفيديو.
في البداية عارض مقدم المخابرات الحربية «عبود الزمر» وعدد من قادة الجهاد قرار عبد السلام فرج بحيث أنهم لم يوافقوا على توقيت التنفيذ المبكر حسب رأيهم فيما عزا «احمد سلامة مبروك» أسباب الامتناع عن الموافقة إلى طوارئ إستراتيجية، فقد كان يرجح أفضلية عدم الصدام مع الحكومة في هذه المرحلة، وكان يصر على تهريب جميع «قادة الجهاد» الذين تم كشف أسمائهم إلى خارج البلاد، بينما يكمل الباقون العمل بسرية وهدوء دون صدام لحين لحظة الإحاطة الشاملة واستكمال الإمكانات الكاملة بغية الاستيلاء التام على مقاليد الحكم في البلاد، لكن «محمد عبد السلام فرج» الرجل الأقوى في التنظيم شدد على حتمية وضرورة التنفيذ العاجل، وقرر بالتالي المضي في العملية.
وهكذا نجحت عملية تصفية «أنوار السادات» على منصة الاستعراض العسكري، وقتل السادات بمعية آخرين من رجالات دولته على وقع زخات الكلاشينكوف التي أمطر بها خالد شوقي الاسلامبولي منصة رؤوس البلد، بينما فشلت العمليات الأخرى التي كان مقررا لها أن تصحب عملية المنصة كاستهداف مديريات الأمن، والثكنات العسكرية.
انجلى الغبار عن ساحة المواجهات الطارئة، وتساقط أعضاء وقادة التنظيم المسلح الواحد تلو الآخر، وكان من السهل على الجهاز الأمني أن يجهز على التنظيم بأكمله في وقت وجيز بمجرد إمساكه بطرف أول خيط يدله على أماكن اختباء صقور الجهاد بسبب الضعف الشديد في الإجراءات الأمنية المتخذة في دواليب التنظيم.
ولم يكن «قادة الجماعة الإسلامية» الهاربين بالصعيد على علم بالاعتقالات الواسعة التي شملت حلفائهم من قادة الجهاد في القاهرة، وسائر محافظات مصر بسبب انقطاع الاتصال بين حلقة وصلهم «أسامة حافظ» وبين قادة «تنظيم الجهاد» قبل أن تصاب صقورهم المؤسس «كرم زهدي» و«علي الشريف» بنوبة حماس شديد اثر سماعهم بخبر نجاح عملية اغتيال «السادات» من وسائل الإعلام، وهو الحماس الذي دفع بـ«كرم زهدي» إلى السعي لاستخلاص موافقة أعضاء شورى الجماعة الإسلامية على القيام بخطوة «أسيوط» الشهيرة فجر عيد الأضحى من عام 1981، حيث هاجمت «الجماعة الإسلامية» بقيادة كرم زهدي مديرية الأمن ومراكز الشرطة وفرقها، وتبادل الجانبان إطلاق نيران المواجهة مما تسبب في انهيار تام لمنظومة الشرطة قبل أن تتدخل فرقة «المظليين والكوماندوز التابعتين للجيش» لتخليص المدينة، وإلقاء القبض على أعضاء الجماعة.
ولعل الحلقة المفقودة في أحداث أسيوط تتمثل في عدم علم المخطط الداهية «عبود الزمر» وبعض قادة الجهاد بشان العملية إلا بعد مرور يومين كاملين، وهو القرار الذي انفرد بتنفيذه قائد الجماعة الإسلامية «كرم زهدي» دون ربط الاتصال بقادة الجهاد الآخرين لاطلاعهم على حيثيات العملية، وهذا دليل على العشوائية في قراءة التطورات والتعامل معها جراء فقدان الاتصال بين الجناح القاهري ونظيره الصعيدي.
وعلى وقع الأحداث المتسارعة، وصورة المشهد المربك شرع الأمن في حملة واسعة النطاق استطاع من خلالها تفكيك «التحالف المشكل» وإلقاء القبض على أزيد من 500 من أفراده، ليبدأ مسلسل آخر، هو مسلسل المحاكمات الطويلة والإعدامات والأحكام الغليظة.
وفي غمرة انشغال الجميع بمسار التحقيقات، وإنزال العقوبات، كان «عبود الزمر» و«عصام القمري» يعملان على إعداد مخطط لمحاولة هروب جماعي من «السجن الحربي» والقيام بعمل عسكري استدراكي يعقب الهروب من السجن من شأنه أن يكون ورقة ضغط على الأجهزة الأمنية حتى تطلق سراح من شملهم الاعتقال على الأقل، وقد اتصلا لهذا الغرض بمجموعة من قادة الجهاد والجماعة الإسلامية الهاربين، كانوا قد نظموا أنفسهم بتوجيهات من «عبود الزمر» و«عصام القمري» وكان على رأس هذا «التنظيم الهارب» «رفاعي طه» صاحب «الرسالة اللمانية» والمحامي والحقوقي المعروف «منتصر الزيات» و«صلاح عبد القادر» و«جدي سالم» و«عادل عبد المجيد» و«هاني السباعي» صاحب موقع المقريزي.