لا تحرق نفسك وإن احتقروك وظلموك د. رشيد نافع

 

أخرج الإمام مسلم في صحيحه بسند متصل إلى أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا”، هذا الحديث العظيم تضمن مطلعه قاعدة من قواعد الدين وأصوله، فنص على تحريم الظلم بين العباد، وهو من أعظم المقاصد التي جاءت الشريعة بتقريرها.

نعم وبلا نكران هناك ظلم وطغيان وشطط واستغلال، ولا ينبغي إغفال هذه الموضوعات ولا السكوت عنها، وهناك مظالم خاصة وعامة لا يجوز بحال إقرارها أو تأييدها أو إنكارها، بل يجب العمل الجاد لرفعها عن الشعوب المقهورة و”المحكورة” والأفراد بكل وسيلة شرعية ممكنة من غير إخلال بقواعد الأمن، أو جر الوطن إلى مستنقع الفوضى، فالوطنية توجب على المواطن أن يحب وطنه، وأن يبذل كل ما في وسعه من أجل رفعة وطنه، وأن يضحي بكل ما يملك في سبيل الله، ثم في سبيل المحافظة على سلامة وطنه، وأمنه واستقراره ومقدراته.

إن أمن الوطن مسئولية الجميع، ولاشك أن الظلم يؤدي إلى اختلال مفهوم الأمن لأنه يكون حيث لا أمن من هنا وجب على الدولة ردع الظالمين المستكبرين الذين يحتقرون الناس ويقصونهم بل وأحيانا كثيرة يلغونهم، فقد روى أبوداود من رواية أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه” وأخرجه الترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة.

فيا أيها الظالم المتعجرف المستبد أدعوك لتتأمل قول نبينا صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه كما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: “اتق دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب”، فالطريق أمامها مفتوح غير موصد، لا يصُدها صادّ، ولا يمنعها مانع.

أيها الظالم مهلاً.. وأيها المظلوم صبراً.. {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار}، وقال تعالى: {وسيعلم الذين ظلمواً أي منقلب ينقلبون}، فإلى متى ستبقى أيها الظالم مستبداً.. تدوس من هم أضعف منك.. ولا تبالي.. تنسى أو تتناسى أن هناك ربا في الأعالي.. يسمع الأنين والشكوى في جوف الليالي.. ينصر المظلوم.. ولو بعد حين..

لا تظلمن إذا ماكنت مقتدرا***فالظلم ترجع عقباه إلى الندم

تنام عيناك والمظلـوم منتبه***يدعو عليك وعين الله لم تنم

لكن ومع هذا كله فلا يجوز أن يكون حرق النفس من أساليب الاحتجاج ورفع الظلم، فإن من القواعد المعروفة في شريعتنا أن “شرف الغاية لا يبرر الوسيلة المحرمة”، ولأن حرق النفس وسيلة لقتل نفس محرمة، وقتل النفس المحرمة من أكبر الذنوب كما في نصوص الكتاب والسنة قال تعالى: “وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً”، وقال أيضا: “وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة”.

وحرق النفس يدخل في ذلك، فنفس الإنسان ليست ملكا له بل هو مؤتمن عليها ومطالب بالمحافظة عليها حتى يلقى ربه، وقد روى البخاري في صحيحه عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من حلف بملة سوى الإسلام كاذبا فهو كما قال، ومَن قتل نفسه بشيء عُذِّب به يوم القيامة، ومَن رمى مؤمناً بكفر فهو كَقَتْله، ولعْن المؤمن كقتله” رواه البخاري.

وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعن نفسه يطعنها في النار”، وعند الإمام مسلم من رواية أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبداً” رواه مسلم.

ونصوص العلماء قديما وحديثا ظاهرة متضافرة على تحريم هذا العمل، وبيان عِظَم جُرم مرتكبه، فلا يجوز حرق النفس تعبيرا عن الغضب و”الحكرة”، أو طلبا لرفع الظلم والتهميش، وإنما يكون إزالة الظلم بالطرق والأساليب الشرعية والمشروعة التي لا يترتب عليها مفاسد أعظم مما يراد زواله.

أقول ختاما لمن يهم بحرق نفسه أو للمحرض على هذا العمل الشنيع: هل تعلم ما يحق على أول من سن سنة حرق النفس بين المُسلمين وماذا يكون عليه..؟؟

الجواب بإيجاز: سيكون عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *