منزلة اليقين “حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين، وفيه السكون إلى غير الله عز وجلّ”

اليقين ضد الريب والشك، فهو يتضمن سكون الفهم مع ثبات الحكم (انظر مجموع الفتاوى والمفردات للراغب مادة: يقن)، ولهذا قال من قال من السلف: “اليقين هو استقرار العلم الذي لا يحولُ ولا ينقلب ولا يتغير في القلب” (بصائر ذوى التمييز 5/397)، فهو شيء ثابت راسخٌ فيه.

منزلة اليقين
جاء عن بعض السلف: “الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله” (مجموع الفتاوى، ورسالة اليقين لابن أبي الدنيا). وقد أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أنه قال: “الْيَقِينُ الْإِيمَانُ كُلُّهُ” رواه البخاري تعليقا مجزوما به.
ولهذا قال أبو بكر الوراق رحمه الله: “اليقين ملاك القلب، وبه كمال الإيمان، وباليقين عُرف الله، وبالعقل عُقل عن الله”.

اختبار اليقين
هناك مواقف يختبر العبد فيها حاله في هذا الباب، ومن هذه المواقف:
– الموقف الأول: موقف التوبة: فالعبد الذي قد كمل اليقين في قلبه؛ لا يتردد إذا وقع منه تقصير أو ذنب أو زلة، فإنه يبادر إلى التوبة من غير تردد، وأما من ضعف يقينه، فيحتاج إلى تحريك القلب بالمواعظ والعبر، والأمور المُرقِّقة لقسوة قلبه.
– الموقف الثاني: هو موقف المصيبة: فمن كان متحققاً باليقين؛ فإنه عند المصيبة يكون رابط الجأش، ثابتاً، صابراً، حابساً للسانه عن التسخط، ولجوارحه عن فعل ما لا يليق.
– الموقف الثالث: في حال الحاجة: فإذا احتاج العبد وافتقر إلى المخلوقين، إلى مَالِهِم في فقره في دنياه، أو احتاج إليهم في شيء من الأشياء في دنياهم، فإنه بذلك يختبر يقينه، فإذا كان قلبه يتلفت إلى المخلوقين ويتطلع إليهم، ويتعلق بهم لينال ما عندهم؛ فإن قلبه لم يتحقق باليقين بَعْدُ.
الموقف الرابع: في حال الغنى: فمن الناس من لا يصبر إذا أغناه الله عز وجل، فيصل به ذلك إلى الكفر، لربما قال: إنما أوتيته على علم عندي، وينسى أن الله عز وجل هو الذي أعطاه وأولاه، وأن الله عز وجل هو مالك الملك وأن العطاء بيده.

الطريق إلى اليقين
أصل ذلك: توفيق الله عز وجل، ومع ذلك فثمة أسباب توصله العبد إلى هذه المرتبة ومن هذه الأسباب:
– الأول: العلم: بأن يعمل بمقتضى هذا العلم.
قال بعض السلف: “العلم يستعملك -فتعمل بمقتضاه- واليقين يجملك” (مفتاح دار السعادة 1/154).
– الثاني: دفع الواردات والخواطر والأمور المنافية له.
– الثالث: العزم الجازم الذي لا تردد فيه في العمل بمرضاة الله عز وجل.
– الرابع: مفارقة الشهوات والحظوظ النفسانية قال ابن القيم رحمه الله في هذا المعنى: أصل التقوى مباينة النهي، وهو مباينة النفس، فعلى مفارقتهم النفس وصلوا إلى اليقين.
– الخامس: التفكر في الأدلة التي توصل إلى اليقين.

ثمرات اليقين
يثمر اليقين أمورا عظيمة على أحوال العبد ظاهرا وباطنا:
– أولاً: أن اليقين إذا وصل إلى قلب الإنسان؛ امتلأ قلبه نوراً وإشراقاً، وانتفى عنه أضداد ذلك من الشكوك والريب والشبهات التي تقلقه.
– الثاني: الهدى والفلاح في الدنيا والآخرة.
يقول ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: “لا يتم صلاح العبد في الدارين إلا باليقين والعافية، فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا من قلبه وبدنه” (وانظر كذلك مدارج السالكين 2/397).
– الثالث: أنه يورثه الزهد في الدنيا وقصر الأمل: فلا تتعلق نفسه بها، ولا يتشبث بُحطامها، قال بلال بن سعد رحمه الله: “عباد الرحمن اعلموا أنكم تعملون في أيام قصار، ولأيام طوال، في دار زوال لدار مقام، ودار حزن ونصب لدار نعيم وخلد، ومن لم يعمل على اليقين، فلا يغتر؛ لأن المصير حتماً سيقع إما إلى الجنة وإما إلى النار”.
– الرابع: الانتفاع بالآيات والبراهين.
– الخامس: الصبر فلا يمكن للعبد أن يصبر إن لم يكن له ما يطمئن له، ويتنعم به، ويغتذي به وهو اليقين (الاستقامة 2/261).
– السادس: مما يورثه اليقين -وهو مرتبه فوق الصبر- : الرضا بما قدر الله عز وجل وأعطى وقسم: فاليقين هو أفضل مواهب الله عز وجل على العبد، ولا يمكن أن تثبت قدم الرضا إلا على قاعدة اليقين ودرجته، فمن لا يقين عنده لا يمكن أن يصبر، فضلاً أن يرتقى إلى درجة الرضا بما قدر الله عز وجل عليه من الآلام والمصائب والمحن والبلايا، وما قدر الله عليه من الفقر والمرض، وما أشبه ذلك، يقول الله تعالى: “مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ..” (التغابن)، يقول ابن مسعود: “هو العبد تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله؛ فيرضى ويُسلّم”، ولهذا لم يحصل له هداية القلب والرضا والتسليم إلا باليقين. (مفتاح دار السعادة 1/154).
– السابع: من ثمرات اليقين: أن البلاء يصير عند من استكمل اليقين نعمة، والمحنة منحة: قال سفيان بن عيينة: “من لم يَعُدّ البلاء نعمة فليس بفقيه” (مفتاح دار السعادة 1/154).
– الثامن: مما يثمره اليقين: التوكل على الله عز وجل: ولهذا قرن الله بينه وبين الهدى، فقال: “وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا..” (إبراهيم)، وقال: “فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ” (النمل)، والحق هنا هو اليقين كما قال ابن القيم رحمه الله. (مدارج السالكين 2/398).
– التاسع من ثمراته: هو أنه يحمل صاحبه على الجد في طاعة الله عز وجلّ والتشمير والمسارعة والمسابقة في الخيرات: ولذلك فإن أصحابه يمتاطون العزائم، ويهجرون اللذات، وكما قيل: “وما ليل المحب بنائم”. فعلموا طول الطريق، وقلة المقام في منزل التزود؛ فسارعوا في الجهاز، وجدّ بهم السير إلى منزل الأحباب، فقطعوا المراحل، وطووا المفاوز. (مفتاح دار السعادة 1/149).
– العاشر: من الأمور التي يثمرها اليقين في سلوك العبد: أنه يجعل صاحبه ثابتاً على الحق الذي اتبعه وعرفه: ولهذا فإن أهل الحق هم أكثر الناس ثباتاً، وقد ذكر هذا شيخ الإسلام رحمه الله في جملة الخصائص السلوكية لأهل السنة والجماعة: “وتجد أن أصحاب الرأى من المتكلمين، وأصحاب العقائد الفاسدة، والجدل الباطل؛ هم أكثر الناس تنقلاً من قول إلى قول، ومن مذهب إلى مذهب، وتجد الواحد منهم يحكم بكفر القول، أو بكفر قائله، وتجده بعد مدة يقرر هذا القول في بعض كتبه، يقول قولاً، ثم يقول نقيضه تماماً بعد مدة وجيزة أو طويلة، بخلاف حال المؤمن الثابت، الذي رزقه الله عز وجلّ اليقين.

الأمور التي تنافي اليقين
وأعظم ذلك أن يكون القلب متطلعاً إلى غير الله عز وجلّ، متعلقاً به، ملتفتًا إليه، ولهذا قال بعض السلف: “حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين، وفيه السكون إلى غير الله عز وجلّ، وحرام على قلب أن يدخله النور وفيه شئ مما يكرهه الله جل جلاله” (روضة المحبين ص439).
وهكذا الشكوك، والريب، والأمور التي تجلب ذلك: بسماع الشبه، وسماع كلام المخذلين، والمثبطين الذين يثبطون عزائم المؤمنين، ويوهنونهم، ويحثونهم على القعود عن التزام صراط الله عز وجلّ المستقيم، فهؤلاء الذين قَلَّ يقينهم إذا استمع العبد منهم، فربما سببوا له شيئاً من ضعف اليقين، حين ذلك يورثه قلقاً، وانزعاجاً، واضطراباً، وهذا يخالف اليقين؛ لأن اليقين طمأنينة، وثبات واستقرار، كما قال ابن القيم رحمه الله: “الشك مبدأ الريب كما أن العلم مبدأ اليقين” (بدائع الفوائد 4/913).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *