كتاب الله في بلاد المغرب ذ. طارق الحمودي

كان القرآن الكريم ولا يزال أوثق أمنة لهذه الأمة، فقد كان له الدور الأعظم في دخول الناس في دين الله أفواجا، إذ كان نورا أضاء الله به ظلمات أضلت الناس زمنا طويلا، فهداهم إلى الصراط المستقيم، فقاتل الإيمان الكفر عليه، واستمر كيد أعدائه ولم ينقطع، فلغوا فيه وافتروا عليه وحاكوه، فلم يرجعوا من ذلك إلا بخزي عريض، فأين هم من «فضائله»، وأين هم من «مداخل إعجازه»، ومع ذلك سيستمر جند إبليس في الكيد والمكر، فتنهض بذلك طوائف مختلفة من أهل الكفر يجمعها هم مشترك، ويدفعها غرض واحد، النيل من القرآن الكريم، إذ هو العصمة والقوة لهذه الأمة، فانبرت طوائف الباطنية بمعاول التشكيك تارة والتأويل الباطني تارة أخرى، محاوِلة صرف الناس عن معناه بعد أن فشل أسلافهم في صرفهم عن لفظه، ولكن الله بالمرصاد يحفظ كتابه، ويجعل له من أسبابه ما تحار فيه عقولهم.
ادعى مشركوا قريش أن القرآن من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أخذه من نصراني كان في مكة، ثم دس في الفكر الإسلامي القول بخلق القرآن، ثم ادعى الشيعة أنه محرف ومنقوص ومزيد فيه، ثم خاض فيه الباطنية بالتأويل، واجتهد أهل الكفر قديما وحديثا بنزع الشواهد على كفرهم منه، وها نحن اليوم مع طوائف تدعو إلى إعادة تفسيره مقلدين في ذلك من سبقهم من أئمة شأنهم.. على طريقة التفسير الرمزي الباطني كما هو اختيار محمد أركون، أو لحاجتنا إلى قرآن يوافق الحداثة الغربية كما هي طريقة الجابري، أو ليوافق مقتضيات المواثيق الدولية على طريقة أدنى القوم أحمد عصيد، أو لكونه لا يناسب العصر كما نشر في جريدة “آخر ساعة”، ومثلها كثير، وكلها تؤول إلى الطعن في كتاب الله تعالى.
لقد كان لكتاب الله تعالى في بلاد المغرب قصة جميلة، فـ«لنسخة من مصحف عثمان رحلة عجيبة في أرجاء المغرب والأندلس»، تلقاه المغاربة بحب وحنو، وحفظوه إجلالا وتكريما، وعملوا به تعظيما وتبجيلا، وتلوه في مجالسهم فحفتهم الملائكة وتغشتهم الرحمة، فكان دخوله المغرب حدثا عظيما، فاحتفلوا به وبخدمته، فجمعوا “أحكامه”، وفسروه بـ«تحرير وجيز» و«تسهيل»، وخاضوا في ذلك «البحر المحيط»، وأقاموه حكما بينهم حتى أذن الله بالبلاء، فنسي الناس ما ذكروا به، فسلط الله عليهم أوباش الناس وسقطهم.
لا يعلم هؤلاء أن آخر معاقل الإسلام أقواها، وأن الوصول إليه بدعوى إعادة القراءة والتفسير معناه إعادة المسلمين إلى وعيهم، وتذكيرهم بانتمائهم وهويتهم، وما يفعله هؤلاء يزكي ويشهد لما كان ولا يزال يفعله العلماء وطلبة العلم من بيان حقيقة هؤلاء الباطنية الجدد، فسينفقون جهدهم في ذلك، ثم يكون ذلك كله عليهم حسرة ثم يفضحون، يريدون لهذه الأمة الخضوع والخنوع، والناس من مكرهم عائدون صادقون، يزداد يقينهم يوما بعد يوم في أن كتاب ربهم مصدر ارتقائهم وعلو منزلتهم، وسبب كرامتهم ورفعة قدرهم.
لماذا يحاربون اللغة العربية؟ ولماذا يصرون على تسفيهها وكتم أنفاسها؟
سؤال لابد من وضعه على طاولة الملاحظة، فالجواب عنه رهين بملاحظة ما ذكرته من قبل، ولابد في ملاحظته من وضع الكل في سياق نظر واحد، فالقرآن عربي، ولا سبيل إلى فهمه إلا بها فتأمل.
هكذا يفعل أهل الضلال في العالم، أئمته في بلاد الكفر، وعبيدهم في بلاد المسلمين، يثيرون الشعوبية وكره العرب في نفوس أهل البلاد المفتوحة، ثم يبغضونهم في العربية، ثم يجهزون على الأمة بفصلهم عن كتاب ربهم، ولن يستطيعوا ذلك لا بحرق المصاحب على طريقة القس جونز، ولا بطريق النسخ المحرفة، ولا بطريق إغلاق أماكن حفظ القرآن، فحفظة كتاب الله يزدادون، والمطابع مستمرة في إخراج أعداد هائلة من المصاحف، ولا يزال تراثنا بخير، وفيه رفعة هذه الأمة إن أحسنت استخراجه وعرضه وقراءته، لتتعرف على نفسها وتاريخها ونسبها.
لن يزيد هذه الأمة كيد أهل الكفر إلا وعيا، ولن يكون إلا هزا لنائم متحفز، والذي علينا نحن أن نقوم بأعباء الرسالة الحضارية التي ضُمنت كتاب الله تعالى، وشهد التاريخ عليها شهادة ثابتة مستمرة، وكلام الله حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنه تنزيل من رب العالمين، فإن له حلاوة، وإن عليه طلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى. شفاء أسقام، ورافع أوهام، وهو القول الثقيل الذي تخشع له الجبال وقلوب الرجال.
الذي يفعله أهل الكفر اليوم على أيدي أذنابهم تبعا لأسلافهم هو محاولة قطع الحبل الممدود من السماء إلى الأرض بين الله وبين عباده بأظافر الحقد وأسنان الكراهية، حتى ينفصل الناس عن مصدر الهدى، فيرجعون إلى أهوائهم فيضلون، فيتسلط القوي على الضعيف، والذكي على الغبي، ويتسلط الغني على مال الفقير، وينزو الناس رجالهم على نسائهم بلا شرع نزو الحمر ذكرانها على إناثها بلا نكير.
لا خوف على كتاب الله تعالى، لا خوف على الفاتحة، إنما الخوف أن نركن إلى الذلة والعجز والكسل، فيقضم أهل الضلال من ديننا قضمة، ثم أخرى، حتى لا يبقى منه إلا شبه ثوب رقيق، يشف عما تحته، فنكون كالكاسية العارية، والله الموفق لما يحبه ويرضاه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *