قال عمر رضي الله عنه: “إنّ أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أنْ يحفظوها، والسنن أنْ يتفهموها، فعارضوا السنن برأيهم فإياك وإياهم”، وفي رواية أخرى قال رضي الله عنه: “فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا”، وهذا الذي قاله الملهم عمر رضي الله عنه منطبق تماما على بعض أنواع الفكر الذي لا دليل عليه، كالفكر الذي يهدم أصولاً، وينسف نصوصا، ويستدل أصحابه بالمشتبهات لا بالأصول العلمية.
قال الشاطبي رحمه الله في الموافقات: “ليس ثمَّ صاحب رأي إلاّ ويجد في الشرع من المتشابه ما يدل على رأيه”.
“الإسلام ليس مجموعة أفكار، لكنه وحي منزَّل من ربِّ العالمين في القرآن العظيم، وفي سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى “إِنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى” النجم، أما الفكر فهو قابل للطرح والمناقشة، قد يصح وقد لا يصح؛ لهذا فلا يجوز أن يطلق عليه: “فِكْر”؛ لأن التفكير من خصائص المخلوقين، والفكر يقبل الصواب، والخطأ، والشريعة معصومة من الخطأ”.
“لا تُوجد في الإسلام وظيفةٌ أشرف قدراً، وأسمى منزلة، وأرحب أفقاً، وأثقل تبعة، وأوثق عهداً، وأعظم أجراً عند الله من وظيفة العالم الديني!
ذلك لأنه وارث لمقام النبوة، وآخذٌ بأهم تكاليفها وهو الدعوة إلى الله، وتوجيه خلقه إليه، وتزكيتهم وتعليمهم، وترويضهم على الحق حتى يفهموهم ويقبلوه، ثم يعملوا به، ويعملوا لـه.
فالعالم بمفهومه الديني في الإسلام قائدٌ، ميدانُه النفوس، وسلاحه الكتاب والسنة، وتفسيرهما العملي من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه رضوان الله عليهم، وعونه الأكبر على الانتصار في هذا الميدان أن ينسى نفسه، ويذوب في المعاني السامية التي جاء بها الإسلام، وأن يطرح حظوظها وشهواتها من الاعتبار، وأن يكون حظه من ميراث النبوة أن يزكي ويُعلِّم، وأن يقول الحق بلسانه، ويحققه بجوارحه، وأن ينصره إذا خذله الناس، وأن يجاهد في سبيله بكل ما آتاه الله من قوة”. (وظيفة علماء الدين للعلامة محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله).
تلك هي وظيفة العلماء الربانيين، مهمتهم أن يسوسوا ويوجهوا ويؤطروا حياة الناس وفق شرع رب العالمين، كيف لا وهم السلسلة الموصلة إلى صاحب الشريعة وهُم حملة الدين، وبهم وصل شرع رب العالمين إلينا، فإذا لم يمكَّن لهؤلاء ولم تُعرف حقوقهم، فلا تسأل بعد ذلك عن الفوضى التي ستعمُّ المجتمع والناس كافة في أمر دينهم ودنياهم.
وهي المسألة التي تفطن لها جيدا المحتل المستبد، فعمل على قطع الصلة بين العلماء والولاة والشعب، ليستفرد بكل واحد منهم على حدة. وجنَّد لتحقيق هذه الغاية جندا من المستشرقين الذين عكفوا على دراسة تاريخنا وثقافتنا وحضارتنا دراسة دقيقة بغية إيجاد مكامن الخلل والضعف في هذه الأمة، وساندوا كل الطوائف المبتدعة، وألقوا على ديننا وابلا من الشبهات زورا وبهتانا، تلقاها من بعدهم أبناؤهم من الرضاعة من العلمانيين والاشتراكيين واليساريين وزعماء الحداثة ومن على دربهم.
وبعد خروج المحتل تغيرت البنية الاجتماعية والثقافية والدينية للمجتمعات الإسلامية، وتغيرت المفاهيم والقناعات والألفاظ حتَّى صار في المسلمين من يكون تابعًا في فهم الإسلام نفسه للغرب، وشكلت عقليات جديدة أطلق عليها ألقاب محدثة، لم يعرفها لساننا من قبل، من قبيل إحلال المفكر مكان العالم.
فالأمة في تاريخها عرفت أنواعًا من الذين يتكلمون ويكتبون من أهل الاختصاص بالعلم كالمفسر، والمحدث، واللغوي، والفقيه، والمؤرخ، والأديب، والطبيب، والفلكي،و.. أمَّا هذا المصطلح فإنه اصطلاح جديد محدث، ومعلوم عند أهل الشرع والمحبين له أن الأمور إنما توزن بالعلم، لأنه نزل من عند الله جلَّ وعلا ليكون حاكمًا على الناس غير محكوم، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} النساء، فإذا ظهرت اصطلاحات أو استجدت أحوال فإن المرجع في فهمها إنما هو إلى العلم.
مع مصطلح الفكر
قال العلامة بكر أبو زيد رحمه الله عند هذه الكلمة في كتابه معجم المناهي اللفظية: “وكيف يصح أن يكون الإسلام ومصدره الوحي “فكراً”، و”الفكر” هو ما يفرزه العقل، فلا يجوز بحال أن يكون الإسلام مظهراً للفكر الإنساني؟ والإسلام وحي معصوم، والفكر ليس معصوماً” اهـ.
وقال رحمه الله: “الإسلام ليس مجموعة أفكار، لكنه وحي منزَّل من ربِّ العالمين في القرآن العظيم، وفي سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى “إِنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى” النجم، أما الفكر فهو قابل للطرح والمناقشة، قد يصح وقد لا يصح؛ لهذا فلا يجوز أن يطلق عليه: “فِكْر”؛ لأن التفكير من خصائص المخلوقين، والفكر يقبل الصواب، والخطأ، والشريعة معصومة من الخطأ”.
الفكر في المفهوم الشرعي
والفكر في الاصطلاح الجديد إنما هو الرأي في المفهوم الشرعي، إذ الفكر ناتجٌ عن تصرف وتفكير العقل، وقد دلت الأدلة والنصوص الشرعية على النهي عن الرأي الذي لا يستند إلى دليل وعلم.
قال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ} يعني تركوا {حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} من العلم، وأخذوا بالآراء والأهواء وتفرقوا -والتفرق عقوبة من العقوبات-، {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور العلماء ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جُهَّالاً فأفتوا برأيهم فضلوا وأضلوا” البخاري ومسلم، أفتوا برأيهم يعني حكموا على الأمور وعلى الأحوال وعلى ما عندهم مما يحتاج إلى حكم شرعي بالرأي، يعني بالفكر، فضلوا وأضلوا.
قال السفاريني رحمه الله تعالى: “فكل من له مسكة عقل ودربة من فهم يعلم أن فساد العلم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على النقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، ولا في أمة إلا وفسد أمرها أتم فساد”..
قال عمر رضي الله عنه: “إنّ أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أنْ يحفظوها، والسنن أنْ يتفهموها، فعارضوا السنن برأيهم فإياك وإياهم”، وفي رواية أخرى قال رضي الله عنه: “فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا”، وهذا الذي قاله الملهم عمر رضي الله عنه منطبق تماما على بعض أنواع الفكر الذي لا دليل عليه، كالفكر الذي يهدم أصولاً، وينسف نصوصا، ويستدل أصحابه بالمشتبهات لا بالأصول العلمية.
قال الشاطبي رحمه الله في الموافقات: “ليس ثمَّ صاحب رأي إلاّ ويجد في الشرع من المتشابه ما يدل على رأيه”.
وهذه عمدة أهل الفكر في الوقت الحاضر يجدون من المتشابه من كلام الله جلّ وعلا وكلام رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وربما بعض كلام أهل العلم أو الوقائع التاريخية إلى آخر ذلك مما يستدلون به، فيصدرون أحكاما ويقررون أنواعا من النتائج مبنية على تلك المصادر التي هي مجموع الثقافة العامة لدى المفكر.
وهو واقع الساحة الفكرية والإعلامية.. في بلدنا وخارجه، حيث يجرؤ بعض المنتسبين إلى الثقافة والفكر على الخوض في مسائل شرعية لو جمع لها أهل بدر لهابوا الخوض فيها، فالمثقف أو الإعلامي أو المفكر يتكلم في الدين، والسياسة، والاجتماع، والاقتصاد، إلى غير ذلك من المجالات من غير أهلية، الأمر الذي يثير بلبلة وفتنة نحن في غنى عنها.
فلابد إذن من احترام التخصص ومخاطبة الناس بما يفهمون ويعقلون، ولا بأس من مخاطبتهم بأسلوب عصري يفهمونه شريطة أن يكون هذا الفكر منضبطا بالضوابط الشرعية وأن يكون العلم حاكما عليه.