شرع الله جل جلاله شهر رمضان ليكون محطة إيمانية فيها يجدد العبد المؤمن سيره إلى الله جل في علاه؛ وهي محطة تأتي بعد أن تجمعت كدرات الشهوات؛ فصار القلب بسببها مظلما؛ ليبصر بعدها نورا على الدرب يهديه الطريق؛ ولهذا جاء الوصف الرباني الدقيق لهذا الشهر بقوله سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
فهو شرع كان لمن كان قبلنا من الأمم السابقة ثم شرع لنا قصد تحصيل التقوى اكتسابا وتجديدا.
وعليه جاءت كل النصوص الشرعية في ترغيب المسلمين في تحصيل نفحات هذا الموسم العظيم مذ دخوله حتى خروجه؛ وذم الشرع أن يكون المسلم فيه غافلا لاهيا؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رغِمَ أَنفُ رجلٍ ذُكِرتُ عندَهُ فلم يصلِّ عليَّ ، ورَغِمَ أنفُ رجلٍ دخلَ علَيهِ رمضانُ ثمَّ انسلخَ قبلَ أن يُغفَرَ لَهُ ، ورغمَ أنفُ رجلٍ أدرَكَ عندَهُ أبواهُ الكبرَ فلم يُدْخِلاهُ الجنَّةَ) رواه مسلم.
والناظر في التاريخ المشرق لهذه الأمة يجد أن أعظم انتصاراتها كانت في شهر رمضان؛ ومنها:
-غزوة بدر وكانت في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة.
-فتح مكة كانت في العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة.
-معركة القادسية كانت في رمضان سنة خمسة عشر للهجرة بقيادة سعد بن أبي وقاص؛ انهارت فيها دولة فارس.
-فتح بلاد الأندلس كان في رمضان سنة 92 هـ بقيادة طارق بن زياد.
-معركة الزلاقة وهي في جنوب دولة إسبانيا حالياً كانت في سنة 479هـ.
-معركة عين جالوت كانت في رمضان سنة 685 بقيادة السلطان قطز والقائد العسكري بيبرس؛ هزم فيها التتار.
-موقعة حطين كانت في رمضان سنة 584هـ بقيادة صلاح الدين؛ ليحرر بيت المقدس من الإحتلال الصليبي.
-حرب رمضان 1973 -أو حرب أكتوبر- كان في رمضان سنة 1393ه، وفيها تمكنت القوات العربية المسلمة من الانتصار على القوات الصهيونية الغاصبة، فعبرت الجيوش العربية قناة السويس وحطمت أسطورة “الجيش الإسرائيلي” الذي لا يقهر، وهدموا بحمد الله خط بارليف.
ولذلك كان هذا الشهر يمثل أسوأ الذكريات في التاريخ الغربي؛ لما يحمله من صور الصمود والعزة للمسلمين؛ وبما أن التاريخ هو ذاكرة الأمم اجتهد الغرب في تعمية المسلمين عن هذا التاريخ؛ حتى لا يكون مذكرا له بعد غفلتهم؛ ووضعوا لذلك مخططات أبرزها الإعلام.
فالإعلام في رمضان جعل من المسلمين فريسة؛ يراد به تقعيسهم وتحبيطهم عن الاشتغال بالعبادة والذكر وتزكية الروح وتحليتها بالفضائل الممهدة لتحقيق وظيفة الاستخلاف في الأرض؛ كما يريدها سبحانه من عباده؛ وهي مهمة نجح فيها الرعيل الأول من الصحابة الكرام تلاميذ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكانوا خير صحبة لخير البشر؛ أدوا معه الأمانة بعد أن سموا بأنفسهم في مدارج التزكية بفعل تأثير الصوم المطهر للروح من خبث الشيطان.
وصار الإعلام في جل بلدان المسلمين اليوم تحت وصاية العلمانية التي لا تقيم للأخلاق ولا للقيم وزنا؛ فما هي إلا عصابات من الذئاب البشرية التي تسعى وراء بطونها وفروجها؛ جاعلة من المقولة (الغاية تبرر الوسيلة) عقيدة لها في تخريب عقول المجتمعات المسلمة لا سيما الشباب؛ ببث القاذورات في صورة الرسالة الفنية ! -زعموا-.
وإن تعجب فعجب من شخص -علماني- لا يؤمن بشريعة الإسلام ومنها الصيام؛ يحرص على عرض هذه (الحموضة) على المسلمين في ديارهم في شهر طاعتهم رمضان!!!
أليس الأولى أن تصدر من أمثال هؤلاء مقاطعة لإعلام هذا الشهر؟!
أم أن الربح المادي ينسيهم مبادئهم؟؟!
والأغرب من كل هذا أن بلاد المسلمين تنص دساتيرها على المرجعية الدينية كما هو الشأن بالمغرب؛ الذي ينص دستوره على دينه الإسلامي؛ وينص أيضا على وجوب احترام هذا الدين وعدم انتهاك قداسته؛ كما ينص صراحة على وجوب احترام حرمة شهر رمضان من قبيل الإفطار العلني أو تعمد إفساد صوم المسلمين؛ ولا شك فإن الإفساد يشمل الطعام والشراب وقد يشمل أيضا الإفساد المعنوي ببث مظاهر وأفكار فيها ما فيها من جرأة على الخصوصية الإسلامية عامة وخصوصية شهر رمضان خاصة.
إننا للأسف اليوم نعاني من وصاية علمانية تريد فرض نفسها بالقوة على المجتمعات المسلمة من خلال القنوات الإعلامية؛ فتفرض أفكارا دخيلة علينا بدعوى أنها واقع مُعاش؛ يجب التعايش و (التطبيع) معه! وهذه جرأة ووقاحة على شرع الله؛ لأنها إشاعة للفاحشة في بيئة مسلمة محافظة؛ يقول الحق سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)
فالواقع الذي تريد الوصاية العلمانية فرضه على المجتمعات المسلمة واقع شاذ؛ يمثل عينة داخلة في دائرة القلة؛ والمجتمع المسلم ولله الحمد مجتمع متمسك بدينه الخير فيه أصيل؛ ومن الشواهد الدالة على هذا امتلاء المساجد في رمضان بعد جائحة كورونا وكأن هذه الجائحة لم تكن قط!
ومما يؤسف له أيضا أن المؤسسات الموكول لها مراقبة وتنظيم المجال الإعلامي شبه غائبة عن هذه الأحداث؛ فكان الأولى مراقبة فحوى هذه الأعمال والنظر في مدى مطابقتها للثوابت الدينية والقيم الأخلاقية.
إن هذه الوصاية العلمانية لا نشك أن مآلها الفشل؛ لكن يجب على كل مسلم إبراء ذمته أمام الله في هذه الهجمة اللاأخلاقية على البيوت المسلمة؛ بتجنيب الأسر هذه المواد الفاسدة؛ والنظر في البدائل الحسنة؛ وهي ولله الحمد موجودة متوفرة ميسورة المنال.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يحفظ المسلمين من شر الكائدين…آمين آمين.. والحمد لله رب العالمين.