الكلمة الجامعة في عرف الشارع وما اختلف فيه المفسرون اختلاف تنوع:
الكلمة الجامعة في عرف الشارع:
هناك ألفاظ ذات حقائق شرعية، يستعملها الشرع في معنىً معين، لم تكن دالة عليه من قبل فتصير عرفا له. وذلك كلفظ (الصلاة) مثلا التي تدل في اللغة على الدعاء فقط، فصارت في عرف الشرع أقوالا وأفعالا مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم، ومن بين هذه الحقائق أو ما سميته عرف الشارع، ما يكون من الجوامع، حيث نجد اللفظ الواحد ذا معانٍ متعددة، وتكون كلها مرادة أو يحتملها السياق دون أن يقع بين تلك المعاني تناقض أو تضاد، وهو دليل وشاهد على إعجاز القرآن في تلك الألفاظ (1 ).
ومن المفردات الجامعة التي تعد عرفاً للشارع ما يلي:
1 ـ لفظ عبادة
قال في اللسان: العبادة، الطاعة مع الخضوع، ومنه طريق معبد إذا كان مذللا بكثرة الوطء(2 ).
قال الرازي في تفسير قوله تعالى: “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” العبادة تعظيم أمر الله والشفقة على الخلق. وهذا المعنى هو الذي اتفقت عليه الشرائع، وإن اختلفوا في الوضع والهيئة والقلة والكثرة”.اهـ فهي بهذا التفسير تشمل امتثال الأحكام الشرعية كلها (3 ).
وسئل ابن تيمية ـرحمه الله- عن قوله عز وجل “يا أيها الناس اعبدوا ربكم” فما العبادة وفروعها؟ وهل مجموع الدين داخل فيها أم لا؟… فأجاب رحمه الهم:
الحمد لله رب العالمين:
العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمالِ الباطنة والظاهرة.
فَالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الْوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وَالجِهاد للكفارِ والمنافقين، والإحسان إلى الجار، واليتيم، والمسكين، وابن السبيل، والمملوك من الآدميين، والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك من الْعبادة.
وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإِخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشّكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكّل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف لعذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله( 4).
2ـ لفظ البر
فالبر اسم جامع للطاعات، وأعمال الخير المقربة إلى الله تعالى، ومن هذا بر الوالدين، قال تعالى: “إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم” فجعل البر ضد الفجور، وقال: “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان” فجعل البر ضد الإثم، فدل على أنه اسم عام لجميع ما يؤجر عليه الإنسان، وأصله من الاتساع، ومنه البر الذي هو خلاف البحر لاتساعه(5 ).
فالبر: سعة الإحسان وشدة المرضاة والخير الكامل الشامل، ولذلك توصف به الأفعال القوية الإحسان فيقال: بر الوالدين وبر الحج(6 ).
3ـ لفظ الإحسان:
فالإحسان أيضا: اسم جامع، يشمل جميع أنواع الإحسان، فيدخل فيه: الإحسان بالمال، والجاه، والشفاعات، ونحو ذلك، ويدخل فيه أيضا: الإحسان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم العلم النافع، وقضاء حوائج إخوانه المسلمين: من تفريج كرباتهم، وعيادة مرضاهم، وتشييع جنائزهم، وإرشاد ضالهم، ونصرة مظلومهم، وإعانة ضعيفهم، وإغاثة ملهوفهم، ونحو ذلك، ويدخل في الإحسان دخولا أوليا الإحسان في عبادة الله تعالى، وهو الإحسان بمعناه الخاص، كما عرفه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، حين سأله عن الإحسان، فقال: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك(7 )”.
4ـ لفظ التوبة:
قال الأزهري: أصل تاب، عاد إلى الله ورجع وأناب، وتاب الله عليه، أي عاد عليه بالمغفرة.
وأما كون التوبة في أصلها اللغوي بهذا المعنى: الرجوع إلى الله والإنابة إليه، صارت في مصطلح الشارع اسما جامعا، فحقيقتها الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يجب وترك ما يكره، فهي رجوع من مكروه إلى محبوب، فالرجوع إلى المحبوب جزء مسماها، والرجوع عن المكروه الجزء الآخر، ولهذا علق سبحانه الفلاح المطلق في هذه الآية على فعل المأمور وترك المحظور بها(8 ).
فالتوبة هي حقيقة دين الإسلام، والدين كله داخل في مسمى التوبة، وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وإنما يحب الله من فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، فإذا التوبة هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهرا وباطنا إلى ما يحبه ظاهرا وباطنا، ويدخل في مسماها الإسلام، والإيمان، والإحسان، وتتناول جميع المقامات، وهي الغاية التي وجد لأجلها الخلق والأمر، والتوحيد جزء منها، بل هو جزؤها الأعظم، الذي عليه بناؤها، ولم يجعل الله تعالى محبته للتوابين، إلا وهم خواص الخلق لديه، ولولا أن التوبة اسم جامع لشرائع الإسلام وحقائق الإيمان، لم يكن الرب تعالى يفرح بتوبة عبده ذلك الفرح العظيم، فجميع ما يتكلم فيه الناس من المقامات والأحوال، هو تفاصيل التوبة وآثارها(9 ).
(1 )ـ جوامع كلم القرآن وشواهد الإعجاز ص:113؛ عبد العزيز بن محمد بن عبد الله السحيباني
(2 )ـ لسان العرب مادة “عبد” 4/240
(3 )ـ التحرير والتنوير 1/180
( 4)ـ أحمد بن تيمية، مجموع الفتاوي 10/149
(5 )ـ مفاتيح الغيب؛ فخر الدين الرازي 3/40
( 6)ـ التحرير والتنوير 2/128
( 7)ـ رواه البخاري 4/1793 كتاب التفسير، ومسلم 1/37 كتاب الإيمان. وانظر جوامع كلم القرآن وشواهد الإعجاز ص: 118
(8 )ـ جوامع كلم القرآن وشوهد الإعجار ص: 119
(9 )ـ مدارج السالكين؛ ابن قيم الجوزية 1/306