سورة الحجرات لا تعرف إلا بهذا الاسم ووجه تسميتها بذلك أن فيها ذكر لفظ الحجرات، وقد نزلت في قصة نداء بني تميم رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته وهو في خلوة مع نسائه.
وهي سورة مدنية باتفاق أهل التفسير كما حكاه ابن عاشور المالكي رحمه الله في كتابه: التحرير والتنوير.
وموقع هذه السورة من كتاب الله تعالى أنها تعد بداية المفصل منه على القول الراجح كما جزم به جمع من الأئمة وهو مذهب متأخرة فقهائنا المالكية عليهم رحمة رب البرية، وفي ذلك قال الأجهوري المالكي رحمه الله ناظما كما نقل عنه ذلك التاودي بن سودة المالكي رحمه الله في حاشيته على صحيح الإمام البخاري رحمه الله:
أول سورة من المفصل الحجرات لعبس وهو الجلي
ومن عبس لسورة الضحى وسط وما بقي قصاره بلا شطط
وقد ورد في فضل المفصل من القرآن حديث حسن عن النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال: “أعطيت مكان التوراة السبع الطوال، ومكان الزبور المئين، ومكان الإنجيل المثاني، وفضلت بالمفصل”.
والمراد بـ:
السبع الطوال: سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف.
والمئين: السور التي تزيد آياتها على مئة آية.
والمثاني: السور التي تكون آياتها أقل من مئة.
وأما المفصل: فعلى ما بيناه.
وقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن الذي مر قريبا: “وفضلت بالمفصل” يستشف من ورائه أن الموضوع العام لهذا المفصل له علاقة بجنابه الشريف صلوات الله وسلامه عليه، ويتجلى ذلك إذا علمنا أن المفصل فيه سور طوال وأوساط وقصار على نص عليه الأجهوري المالكي في نظمه كما سبق ذكره.
أما طواله: فمن سورة الحجرات إلى سورة عبس.
وأوساطه: من سورة عبس إلى سورة الضحى.
وقصاره: من سورة الضحى إلى سورة الناس.
فبداية الحجرات قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
وبداية سورة عبس قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى}.
وبداية سورة الضحى قوله تعالى: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}.
وعليه فالملاحظ أن فواتح أقسام المفصل من القرآن كلها تتكلم عن النبي عليه الصلاة والسلام فاتضح ما قلناه.
ومن المقرر عند علماء القرآن أنك إذا أردت الكشف عن الموضوع العام للسورة من كتاب الله أن ذلك يعرف من فاتحتها وبدايتها ومطلعها، فإن مطالع السور وفواتحها لها أسرار تتحصل بالتكرار من ذلك ما قلناه.
قال بعضهم ناظما:
وسور القرآن في ابتدائها وفي خلوصها وفي انتهائها
واقعة أبدع نظم وأجل وكيف لا وهو كلام الله جل
ومن لها أمعن في التأمل بدا له كل خفي وجلي
والله تعالى قد استهل سورة الحجرات كما هو معلوم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
فمطلع سورة الحجرات يقرر لنا النهي عن التقدم على قول الله تعالى، وعلى سنة رسوله عليه الصلاة والسلام برأي أو اعتقاد أو قول أو فعل.
وعنوان ذلك: الأدب والتخلق مع الله تعالى ومع رسوله عليه الصلاة والسلام، ومن تم فالموضوع العام لسورة الحجرات: الأدب، وما أحوجنا إلى الأدب، فبتحقيق الأدب يدرك المرء الأرب (أي: الحاجة)، وينال أعلى الرتب، وأدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره.
ومن تجليات كون الموضوع العام لسورة الحجرات هو الأدب والتربية والأخلاق ما هو مقرر عند العلماء ومعلوم عند النجباء أن أسس الأدب أربعة:
أولا: حفظ المراتب.
ثانيا: مراعاة المناقب.
ثالثا: النظر إلى العواقب.
رابعا: تجنب المثالب.
وكل هذه الأصول مقررة مسطرة في سورة الحجرات فعلى سبيل المثال لا الحصر.
أصل حفظ المراتب: في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُون}. ففي الآية تقرير لحفظ مرتبة النبي عليه الصلاة والسلام ومقامه.
وأصل مراعاة المناقب: في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عظيم}. وفي الآية تقرير منقبة وفضيلة الصحابة رضي الله عنهم لأجل امتلاء قلوبهم بتقوى الله تعالى.
وأصل النظر إلى العواقب: في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم}. وفي الآية دعوة للنظر إلى مآلات الأمور.
وأصل تجنب المثالب: في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيم}. وفي الآية أمر باجتناب هذه المناهي والمثالب من إساءة الظن والتجسس والغيبة.
والأدب الخاص المقصود أصالة الذي تتكلم عنه سورة الحجرات وتقرره الأدب مع النبي عليه الصلاة والسلام كما هو جلي من مطلعها وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
وحقيقة الأدب مع النبي عليه الصلاة والسلام: بالتسليم لسنته، والانقياد لأمره، وتلقي أخباره الثابتة بالقبول والتصديق، دون معارضتها بخيال باطل، يسميه بعضهم معقولا، أو شبهة أو شك، أو أن يقدم عليها آراء الرجال، وزبالات أذهانهم، فلا بد من توحيده عليه الصلاة والسلام بتحكيم سنته، والتسليم لأمره والانقياد والإذعان، والإتباع دون ابتداع، كما يوحد الله تعالى بالعبادة والخضوع والذل، والإنابة والتوكل بلا نزاع.
قال الإمام أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله في أحكام القرآن عند تفسيره لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
“قَوْله تَعَالَى {لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أَصْلٌ فِي تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِأَقْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيجَابِ اتباعه، والإقتداء بِهِ”.
إذن فالأدب معه عليه الصلاة والسلام باتباعه واجب، والاقتداء به أمر لازم في حياته وكذا بعد مماته.
قال أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله في أحكام القرآن: “حُرْمَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيِّتًا كَحُرْمَتِهِ حَيًّا، وَكَلاَمُهُ الْمَأْثُورُ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الرِّفْعَةِ مِثْلُ كَلَامِهِ الْمَسْمُوعِ مِنْ لَفْظِهِ، فَإِذَا قُرِئَ كَلَامُهُ وَجَبَ عَلَى كُلِّ حَاضِرٍ أَلَّا يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ، وَلَا يُعْرِضَ عَنْهُ، كَمَا كَانَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ عِنْدَ تَلَفُّظِهِ بِهِ”.