نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد
على ضوء الشرع والعقل والعلم -دراسة نقدية لكشف حقيقة فكر ابن رشد-
وخامسا إنه تبين لي من تدبر آية الراسخين، وما قاله ابن رشد -بناء على تأويله التحريفي- ، أن هذه الآية ترد على ابن رشد نفسه، وتذم تأويله، وتجعله من الذين في قلوبهم زيغ المثيرين للفتن بدليل الشواهد الآتية: أولها إن مفهومه للتأويل مخالف للتأويل الشرعي ولا يصح، وثانيهما إنه ادعى أن في الشرع نصوصا متعارضة يجب تأويلها، وهذا مخالف للشرع الذي نصّ صراحة على أنه مُحكم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو وإن نصّ على وجود آيات متشابهات، فإن المتشابه لا يعني المتناقض والمتعارض، وإنما يعني أن المتشابهات تحتمل عدة معان، وبإرجاعها إلى المحكمات تُعرف معانيها، إذا كانت من الآيات التي يستطيع العقل إدراكها وفهمها؛ وإلا فهي تتعلق بالأمور التي لا يستطيع العقل إدراكها، لكنها مع ذلك ليست متعارضة ولا متناقضة.
والشاهد الثالث هو أن ابن رشد لم ينطلق في تأويله لآية الراسخين والمحكمات والمتشابهات من الشرع، وإنما انطلق من الفلسفة الأرسطية المشائية في فهمه للتأويل وتطبيقه على الشرع، وهذا هو سبب زعمه بأن في الشرع نصوصا متعارضة، وباطنها مخالف لظاهرها، وبواطنها كفريات يجب إخفاؤها، ومن أظهرها فقد كفر، وبذلك يتبين أن ابن رشد وأمثاله ليسوا من الراسخين في العلم الذين ذكرهم الله تعالى ومدحهم في كتابه العزيز، وإنما هم من الراسخين في التأويل الباطني المحرف للشرع والحقائق.
وسادسا إن ابن رشد نفسه صرّح بأمر خطير جدا، اعترف -ضمنيا- بأنه مخالف للشرع، واختار موقفا لا يتفق معه -أي الشرع- وذلك عندما قال: إن الإنسان إذا أصبح من العلماء الراسخين في العلم، فعرض له (تأويل في مبدأ من مبادئها-أي الشرائع- ففرضه ألا يُصرّح بذلك التأويل، وأن يقول كما قال سبحانه وتعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا)، هذه هي حدود الشرائع وحدود العلماء).
وقوله هذا فيه تناقض وطعن في ابن رشد نفسه، فهو هنا بدأ الآية بقوله تعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا)، بمعنى أنه وقف عند قوله تعالى: (ولا يعلم تأويله إلا الله)، وهذا يُخالف موقفه السابق من أنه اختار الوقف عند قوله تعالى: (والراسخون في العلم)، فجعل هذا المقطع مضافا لما سبقه، لكنه هنا وقف عند (ولا يعلم تأويله إلا الله).
كما أن قوله هذا –أي الأخير- يُوحي بأن ابن رشد فهم من قوله تعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا)، أن الراسخين أخفوا تأويلهم ولم يُصرّحوا به، لذا نصح من أصبح من العلماء الراسخين في العلم بأن يُخفي تأويله المتعلق بمبادئ الشرائع، بدليل أنه قال: (ففرضه ألا يُصرّح بذلك التأويل، وأن يقول كما قال سبحانه وتعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا)، فقوله هذا شاهد على ممارسة ابن رشد للتأويل التحريفي، لأنه لا توجد مناسبة صحيحة بين رأيه والآية التي ذكرها، فهو حثّ المؤولين -على طريقته- بإخفاء تأويلاتهم لمبادئ الشرائع، واستشهد بالآية الكريمة التي تخالف زعمه وسياق كلامه، فهي صريحة في وصف الراسخين بأنهم سلّموا وخضعوا وآمنوا واقتنعوا، وليس فيها زعم ابن رشد بأنهم أوّلوا مبادئ الشرائع وأخفوها!!
وواضح من قوله أيضا أن استشهاده بالآية لم يكن تبنيا لموقفها ومضمونها، وإنما كان تأويلا لها لتأييد موقفه التأويلي التحريفي لها، الذي عبّر عنه صراحة بأنه على المؤوّل ألا يُصرّح بتأويلاته للشرع، فهو هنا لم يتبن ما ذكرته الآية، وإنما تبنى موقفا مغايرا لها، وأوّلها لتتماشى مع موقفه التأويلي التحريفي الذي تبناه.
وأُشير هنا إلى أن السلف الأول من الصحابة والتابعين، منهم طائفة وقفت عند قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله)، وقالت: إن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، ومنهم طائفة أخرى وقفت عند (والراسخون في العلم)، وقالت: إن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه، على طريقة التأويل الشرعي، وكل من الطائفتين أخذت بالتأويل بمعنى البيان والشرح والتفسير، ولم تقل بالتأويل البدعي المخالف للشرع.
ويرى الحافظ ابن كثير أننا إذا أخذنا بالوقف عند قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم)، يكون الراسخون في العلم يفهمون ما خُوطبوا به، وإن لم يُحيطوا به علما بحقائق كنه ما هي عليه، وبهذا يكون قوله تعالى: (يقولون آمنا به…) حالا منهم، وقوله: (أمنا به) أي المتشابه (كل من عند ربنا) أي الجميع من المحكم والمتشابه حق وصدق، وكل واحد منهما يُصدق الآخر ويشهد له، لأن الجميع من عند الله، وليس بشيء من عند الله بمختلف ولا متضاد)، وتفسيره هذا له وجه صحيح على طريقة التأويل الشرعي من جهة، وفيه رد على التأويل الرشدي التحريفي الذي يقول بتعارض النصوص الشرعية من جهة أخرى.