الزجر بالهجر.. “لا هجرة إلا لمن ترجو تأديبه أو تخاف من شره في بدعة أو غيرها” رشيد مومن الإدريسي

معلوم من الحجج والدلائل أن العلاقة بين المسلمين قائمة على الترابط والتقابل، مما يستوجب منك يا رعاك الله عدم هجران أخيك المسلم وقطع التواصل، فإن هذه المصارمة الأصل فيها الحرمة إذ الواجب التآخي في التعامل ولذا فـ”لا هجرة إلا لمن ترجو تأديبه أو تخاف من شره في بدعة أو غيرها”1 كما قرره الأفاضل، وهذا ما يسمى بالهجر الشرعي عند أهل التحقيق في مثل هذه المسائل.

فهجر الديانة إذن أي: )الهجر لحق الله تعالى(2، هو من عمل أهل التقوى في: هجر السيئة، وهجر فاعلها، مبتدعا أو عاصيا.
قال الإمام النووي رحمه الله: “إن كان الهجر لعذر، بأن كان المهجور مذموم الحال، لبدعة أو فسق أو نحوهما، أو كان فيه صلاح لدين الهاجر أو المهجور، فلا تحريم، وعلى هذا يحمل ما ثبت من هجر النبي عليه الصلاة والسلام كعب بن مالك وصاحبيه، ونهيه صلى الله عليه وسلم الصحابة عن كلامهم، وكذا ما جاء من هجران السلف بعضهم بعضا”3.
وعليه فـ”الهجر الشرعي4 نوعان:
أحدهما: بمعنى الترك للمنكرات5.
والثاني: بمعنى العقوبة عليها6.
فالأول: هو المذكور في قوله تعالى: )وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين(…
فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة7، مثل قوم يشربون الخمر، يجلس عندهم. وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر لا يجيب دعوتهم، وأمثال ذلك. بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم، أو حضر بغير اختياره…
النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب: وهو هجر من يُظهِر المنكرات، يُهجر حتى يتوب منها8، كما هجر النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمون: الثلاثة الذين خلفوا، حتى أنزل الله توبتهم…
وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف، بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته، لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر9، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يتألف قوما ويهجر آخرين… كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح”10.
وليعلم أنه من المهمات في باب الهجر الشرعي التفريق بين المبتدع المعلن وغير المعلن، وبين المبتدع الداعية لبدعته وغير الداعية؛ ذلك لأن غير المعلن ولا الداعية لا يشرع هجره زجرا وإن استدعى الحال التوقي منه لمن خشي على دينه لأن المصارمة التأديبية إنما تخص من جاهر أو كان داعية دون من كان مستترا.
وقد قرر هذا شيخ الإسلام رحمه الله في معرض الكلام عمن فعل شيئا من المنكرات والفواحش فقال: “فإن كان الرجل متسترا بذلك؛ وليس معلنا له أنكِر عليه سرا وسُتِر عليه.. إلا أن يتعدى ضرره إذ المتعدي لا بد من كف عدوانه وإذا نهاه المرء سرا فلم ينته فعل ما ينكف به من هجر وغيره إذا كان ذلك أنفع في الدين.
وأما إذا أظهر الرجل المنكرات وجب الإنكار عليه علانية ولم يبق له غيبة؛ ووجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك من هجر وغيره فلا يسلم عليه ولا يرد عليه السلام إذا كان الفاعل لذلك متمكنا من ذلك من غير مفسدة راجحة”11.
وكذلك يراعى في هذا المقام مناسبة مدة الهجر لحال المهجور فإن من الناس من ينزجر بهجر الشهر والشهرين، ومنهم من يزيد ومنهم من ينقص، وكل مهجور ومدة هجره والحد في ذلك ومقداره وصورته على حسب الحال وعليه فمن فعل ما يستوجب العتب وجب “هجرانه دواء له، بحيث لا يضعف عن حصول الشفاء به، ولا يزيد في الكمية والكيفية عليه، فيهلكه، إذ المراد تأديبه لا إتلافه”12.
ومما ينبغي اعتباره في هجر من يستحق ذلك: حال الهاجر من حيث علمه وقوته فيه، وضعفه وعدم تمكنه فيه، بحيث يخشى عليه الفتنة بمجالسة أصحاب المخالفة ومخالطتهم فإن لذلك أثره في تقرير مشروعية الهجر من عدمه كما قرره الإمام أحمد رحمه الله لما قال: “يجب هجر من كفر أو فسق ببدعة، أو دعا إلى بدعة مضلة أو مفسقة على من عجز عن الرد أو خاف الاغترار به والتأذي دون غيره”13.
ومنه إن كان الغرض من النظر في كتب أهل البدع “معرفة بدعتهم للرد عليها فلا بأس بذلك لمن كان عنده من العقيدة الصحيحة ما يتحصن به، وكان قادرا على الرد عليهم، بل ربما كان واجبا لأن الرد للبدعة واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”14.
كما ننبه على علاقة المكان والزمان في مشروعية الهجر الشرعي من عدمه؛ حيث يُفرَّق بين الأماكن والأزمان التي تكثر فيها البدع، وتقوى شوكة أهلها، وبين التي تقل فيها البدع وتضعف شوكة أربابها: فإن كانت الغلبة لأهل السنة فيشرع عموما الهجر لما يرجى من تحقق الزجر والكف عن البدعة بسبب ما يحصل لأصحابها من العزلة عن المجتمع، وأما إن كانت الغلبة لأهل البدع فلا يشرع الهجر عموما لكون هجر أهل السنة لهم لا يمثل لهم أي رادع ولا عقوبة فهم بكثرتهم في غنى عن أهل السنة ومخالطتهم بل يترجح عند هذا التأليف إذا أمنة المفسدة من مخالطتهم فتأمل.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع كما كثر القدر في البصرة، والتنجيم في خرسان، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك.. وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه”15.
واعلم أنه اختلفت أنظار أهل العلم إذا ظهر ما يوجب قطع الهجر ووصل المهجور وقد ذكر العلامة العيني رحمه الله خلاصة ذلك حيث قال: “واختلفوا هل يخرج بالسلام وحده من الهجران فقالت البغاددة نعم، وكذا قول جمهور العلماء إن الهجرة تزول بمجرد السلام ورده وبه قال مالك في رواية، وقال أحمد: لا يبرأ من الهجرة إلا بعوده إلى الحال التي كان عليها أولا، وقال أيضا: إن كان ترك الكلام يؤذيه لم تنقطع الهجرة بالسلام وكذا قال ابن القاسم”16.
فظهر بهذا البيان أن باب الهجر الشرعي لا يكون وفق الطريقة المرضية، وبعيدا عن الحظوظ النفسية والأهواء الردية، إلا بمراعاة قواعده الشرعية، وضوابطه المرعية، ليتحقق لنا الأخذ به بلا إفراط ولا تفريط بل بالاعتدال والوسطية، كل ذلك سعيا لنيل المقاصد العلية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. كما قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد 6/119، وقال الإمام ابن حجر الهيثمي رحمه الله: “ويستثنى من تحريم الهجر..مسائل ذكرها الأئمة، وحاصلها: أنه متى عاد إلى صلاح دين الهاجر والمهجور جاز، وإلا فلا” الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/78.
2. وعندنا الهجر لاستصلاح أمر دنيوي (أي: لحق النفس) وهو القسم الثاني وقد سبق ذكره، وهناك قسم ثالث يبحثه الفقهاء في باب التعزير والمسمى بهجر القضاء، وهو من العقوبات التعزيرية للمعتدين. انظر هجر المبتدع ص:15 للشيخ بكر بن عبد الله أبي زيد رحمه الله.
3. روضة الطالبين 7/367-368، وانظر حاشية قليوبي على شرح المحلي 3/306.
4. من مفردات الهجر الشرعي: عدم المجالسة، وعدم المشاورة، والابتعاد عن المخالطة، وترك التوقير والسلام والمكالمة، وعدم بسط الوجه مع عدم هجر السلام والمحادثة .. انظر هجر المبتدع ص:17.
5. هذا الذي يعرف بـ “الهجر الوقائي”.
6. ويعرف بـ”الهجر الإيجابي”، وهو تأديبي، زجري، تعزيري.
قال ابن فرحون المالكي رحمه الله: “والتعزير لا يختص بفعل معين، ولا قول معين، فقد عزر رسول الله عليه الصلاة والسلام بالهجر، وذلك في الثلاثة الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن الكريم، فهجروا خمسين يوما، لا يكلمهم أحد، وقصتهم مشهورة في الصحاح” تبصرة الحكام 1/202.
7. تنبه إلى هذا القيد، لأن الهجر الوقائي من باب سد الذريعة، وما نهي عنه لأجلها يباح للمصلحة الراجحة كما هو مقرر، وتخلف هذا الهجر عند الحاجة المتحققة أو المصلحة الراجحة ليس خاصا به، بل ينسحب كذلك على الهجر التأديبي.
قال ابن تيمية رحمه الله: “وما أمر به من هجر الترك والانتهاء وهجر العقوبة والتعزير إنما هو إذا لم يكن فيه مصلحة دينية راجحة على فعله، وإلا فإذا كان في السيئة حسنة راجحة لم تكن سيئة، وإذا كان في العقوبة مفسدة راجحة على الجريمة لم تكن حسنة ؛ بل تكون سيئة ؛ وإن كانت مكافئة لم تكن حسنة ولا سيئة” الفتاوي 28/211- 212.
8. ولا بد أن ينتبه فيما نحن بصدده إلى أهمية إقامة الحجة على من تلبس بما يستوجب هجره قبل الهجر، وهذا بعد نصحه.
9. وهذا يدل على أن الهجر ليس مقصودا لذاته كما يظن البعض، وإنما لغيره مما يبين ضرورة مراعاة النظرة المقاصدية عند ذلك فتأمل.
10. الهجر الشرعي ما يحل منه وما يحرم لابن تيمية رحمه الله 8-9-11-12. إعداد أشرف بن عبد المقصود.
وليعلم أن الهجر الخالي من الأمرين (التأديبي والوقائي) فهو ممنوع لأنه خلاف الأصل، ولا خير فيه ولا ثمرة ترجى منه، ولذا سمي بـ”الهجر السلبي”، وقد يعتبر قسما رابعا. انظر حكم الهجر والقطع بين الحلال والحرام في الشرع لصالح العود ص:63.
قلت : ومنه التهاجر بسبب الاختلاف في الأمور الاجتهادية التي تسع لها الفهوم العلمية، والأنظار المرعية !!
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “لو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة” الفتاوي 24/173.
11. الفتاوي 28/217-218 بتصرف يسير، وانظر الفتاوي كذلك 24/174-175.
12. زاد المعاد لابن القيم رحمه الله 3/20، ولذا فالهجر الشرعي قد يصلح بالمقاطعة الكلية إلى حد ترك السلام ورده مراعاة للحالة الخاصة، وربما يتحقق الغرض بأقل من ذلك كترك المخالطة وإن لم يصل الأمر إلى ترك السلام ورده فتنبه.
13. الآداب الشرعية لابن مفلح رحمه الله 1/237.
14. شرح لمعة الاعتقاد للعلامة ابن عثيمين رحمه الله ص:111.
15. الفتاوي 2/206-207، وانظر هجر المبتدع ص:45.
16. عمدة القاري 32/252، والظاهر أن الخلاف بين القولين راجع إلى اختلاف الأحوال، فقد تتحقق المواصلة بعد الهجر بالسلام ورده فحسب، وفي مقام آخر لا يُكتَفى بمجرد السلام لترك المصارمة بل بأكثر من ذلك فتأمل وبالعلم تجمل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *