الحرية والمسؤولية.. أية توافقات وأية موافقات؟ -الحلقة الخامسة-

إن الحديث عن كونية وشمولية حقوق الإنسان يحيلنا على حديث الفقهاء عن الإجماع القطعي، والقطعي هو الحاسم الذي لا مراء فيه! بحيث إنه لا يمكن رده، فضلا عن كونه لا يقبل الاعتراض والجدل! لكننا مع الفقهاء ومع دعاة الدفاع عما للإنسان من حقوق دون ما عليه من واجبات، نرفض بإطلاق ما ادعاه هؤلاء وأولئك.
فما صح ويصح هو أنه من حقنا مطالبة الفقهاء بحجج دامغة موضوعية على ما يدعون، وصح ويصح كذلك أنه من حقنا مطالبة المنظمة الحقوقية التي ترأسها خديجة الرياضي، والمنظمات التي تشاركها في نفس الاتجاه، وفي نفس الخط الأيديولوجي، بما طالبنا به الفقهاء، تأكيدا لارتباطنا بالموضوعية المنتصبة وراء كل تشنج ملفوف في عصبية وفي آفاق جد محدودة وجد ضيقة؟
إن الإجماع القطعي في اصطلاح الأصوليين، هو اتفاق المجتهدين في عصر من العصور على حكم شرعي محدد. وهذا الاتفاق لم يكن نتيجة لقاء في مجمع فقهي (أو مجمع نيابي) تم عقده لدراسة عدة قضايا طارئة تستدعي حلولا صائبة مستعجلة. يكفي أن يجتهد فقيه واحد في مسألة من المسائل التي تعرض عليه، ثم ينتهي بعد إمعان النظر فيها إلى حل مؤيد بدليل من الأدلة الأصولية المعتبرة، حتى يقدم جل الفقهاء على العمل به، مما يعني أن انعقاد الإجماع دون أن يخرج أي فقيه عنه، لا يمكن تصوره، خاصة متى تأكد لدينا أن القضية موضوع الإجماع من اجتهاد فرد واحد، قد يكون قاضيا، وقد يكون مجرد فقيه يمارس التدريس كشيخ يحيط به أصحابه أو تلامذته.
فكون مجلس النواب متفقا في إحدى جلساته على بضعة قوانين بنسبة 51 في المائة من المصوتين عليها، لا يعني واقعيا ومنطقيا بأن المعروض للتصويت يحظى بالأغلبية الساحقة، وإن كنا لا نستبعد القول بأنه حظي بتأييد نسبي، لكنه تأييد غير مريح!
وما ادعته خديجة الرياضي من كون حقوق الإنسان كونية وشمولية، مجرد إطلاق صيحة في البرية! أو مجرد إطلاق سهم من الرمية تجاه مجهول! وإلا فمن أين استمدت هذه الحقوق كونيتها وشموليتها؟ (نقصد الحقوق الشاذة التي تنادي بها!). من وضعها وحددها ومتى؟ وما هي النسبة المئوية التي أيدتها بالتصويت عليها؟ وما الهدف من ورائها؟ أو ما هي النتائج الملموسة التي يمكن جنيها إن نحن كمغاربة قبلناها ومارسناها بدون ما اعتراض؟
فلكي تصبح قيم ما عالمية، لا بد من عقد اتفاق بخصوصها بين الأمم والشعوب على مرحلتين: مرحلة داخلية؛ فمرحلة خارجية. فإن قبلت الدول بها داخليا عن طريق ممثليها في المجالس النيابية، كاحترام منها للنهج الديمقراطي الذي يفرض الرجوع إلى الشعب، يكون قبولها خارجيا أثناء حضور ممثليها حينما يجري التداول بشأنها داخل أروقة الأمم المتحدة. مع التحفظ الذي من حقنا أن نبديه، ونحن نتفوه باسم هذه المنظمة التي لا يطابق اسمها مسماها بأي وجه من الوجوه!
لن نتحدث عن الظروف والملابسات التي أحيطت بتأسيس الجمعية العامة المذكورة قبله، ولا الظروف والملابسات التي أحيطت بتأسيس مجلس الأمن الدولي. تكفي الإشارة -واللبيب يفهم- إلى أن هاتين المنظمتين، عبارة عن مسرح تتولى إدارة التمثيليات التي تجري فوق خشبته دول، وصفها بالرعاة، أقرب إلى الواقع من وصفها بأي وصف آخر له صلة بالأخلاق والمبادئ التي تميز الإنسان عن الدواب على الأقل!
وحق النقض الذي يتم التلويح به وبتطبيقه في مناسبات لهضم حقوق الشعوب، في طليعة الأدلة التي على الرياضي أن تفهمها وتستحضرها كلما تحدثت عن كونية وشمولية حقوق البشر على الأرض! يكفي أن تلك الدول الراعية للأمم -كما ترعى الأغنام في الغالب الأغلب- غارقة في سفك دم ملايين البشر على مدى قرن بالتمام والكمال!
والتفاصيل هنا تعرف السيدة الرياضي ما تخفيه وراءها من قهر واستغلال واستعباد للشعوب، إلى حد أنها تفرض ما تريد فرضه عليها من مبادئ ومن قيم. فلا الحرية استطاعت نزعها، ولا الكرامة تمتعت بها. ولا الديمقراطية استظلت بظلها الوريف! ولا الجياع عبر العالم حصلوا على ما يسد الرمق!
فقط لأن شبكة المصالح التي تجمع رعاة العالم مع الديكتاتوريين المحليين، أغلقت كل الأبواب حتى لا تتسرب منها القيم الإيجابية إلى الجماهير كي تنهض، وتعدو مجدة في السير حتى تقف مستقلة حرة في وجه مستعبديها من فرسان الظلام والنور المتظاهرين بالغيرة على حقوق الإنسان؟
وتأبى منظمات تعاني من التخمة الثقافية الغازية إلا أن تركز على أهمية ما بين الفخدين! أو ما بين الصرة إلى الركبتين! وكأن إدراك المدى في الحضارة المعاصرة، يتوقف على العمل اللوطي! والإدمان على الممارسة الجنسية! والإفطار جهرا في رمضان أمام الصائمين! والتدين بالدين الذي نستبدل به دين الأمة، لأنه أدنى مرتبة من الذي وقع اختيارنا على اعتناقه!
إن كونية القيم وشموليتها عمليا من باب المستحيلات! وإلا كنا كمغاربة -على الأقل- أشبه بحاطب ليل، تقدم لنا قيم ليس وراءها طائل كجعجعة بلا طحن، ثم نعانقها، ونلوم غيرنا -وهذا الغير في مقدمته الدولة- لأنه يعارض انتشارها والأخذ بها، ما دمنا ندعي الاحتماء بدولة الحق والقانون (وأينهما هذان حتى الآن؟). وكأننا لا نرى في الدولة غير الحق! والحق وحده! لكن القانون لا نعيره أي اهتمام! وإن نحن أعرناه أدنى اهتمام، فللنظر إليه كعائق في وجه التحرر من القيم أو من مبادئ تحمل في نظرنا -كتقدميين ثوريين- طابع الرجعية والتخلف؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *