فِـتْـنَـــةُ الـــدَّالِ ربيع السملالي

قال الدّكتورُ سلمانُ العودة في كتابه (أنا وأخواتها ص 17 ط مؤسسة الفرسان للنشر والتّوزيع): قلتُ مرّة لصديقٍ: مرحبًا دُكتور.
أجابَ: لست بدكتور، أنا فلان.
لقد أحسَّ أنّ اللّقبَ يحجبُ ذاتَه، وأرادَ أن يعرفه الآخرون بدون إضافات. اهـ
قلتُ: هذا رجل عرفَ قدرَ نفسه، فَكَرِه أن يناديه النّاسُ بلقبٍ أصبح في عالمنا أكثرَ من التّراب، وأرخص من الهواء، وصار كلّ من هبّ ودبّ يلقّب نفسه به، حتّى وإن كان لا يعرف الفرقَ بين الشّمس وضحاها والقمر إذا تلاها، بل أعرف أقوامًا تَحمرّ أنوفهم وتنتفخ أوداجُهم وتقشعرّ أبدانهم إذا ناديتهم بأخي أو أختي.. ينظرون إليك شَزْرًا كما لو أنّك وصفتهم بالعهارة، أو ألصقت بهم تهمة لا يواريها الزّمان.
وقد تأسّفت قبل يومين حين دخلت على موقع الفيسبوك إلى صفحة فتاة مفتونة بــ(الدّال)، تقدّمها قبل اسمها، فقرأت لها نصّا مليئًا بالأخطاء الإملائية، والنّحوية، أمّا التّراكيب الرّكيكة والمفردات الموضوعة في غير محلّها فحدّث ولا إثم عليك.. فانصرفت ولساني يتعوّذ بالله من التّزبّب قبل التّحَصْرُم، ومن هذه الدّال التي أصبحت كالحبوب التي تتناولها بعض النّساء لتضخيم أردافهنّ.
يقول الدّكتور محمد الرّميحي في مقالة ماتعة له بعنوان (ويسألني سائل) في مجلّة العربي العدد375، كتبها جوابًا على سؤال فتاة راسلته قائلة: ما شروط الكتابة في العربي؟ أو أنّ الكتابة في المجلة مُخصّصة فقط لِحَمَلَة الدّكتوراه؟:
يبدو أنّ هذه (الدّخيلة) الدّكتوراه قد خلقت لدى كثيرين منّا شيئًا يُشبه الحاجزَ النّفسيّ… علّمتني التجربة أن اللَّقبَ العلميَّ ليس هو كلمة السِّر في الإنجاز المتميِّز، فالكتابة (صناعة)، لها أدوات وأصول، و(فنّ) له مستلزماته، والإثنان ليس لهما علاقة مباشرة باللّقب العلمي.
أدوات هذه الصِّناعة هي اللغة والمعرفة والقراءة. ومن مستلزمات الفن الموهبة. اهـ
إنّ هذه الشّهادة قد تُخوّل صاحبها الانتقالَ إلى مرتبة أعلى في التّدريس وفي الوجاهة الاجتماعية. إلاّ أنّها لا تجعل منه كاتبًا بالمفهوم العميق للكلمة، فهو مُجرّد مُدرّس لا غير يقوم بـ(إيصال) نصوص إلى الطَّلَبَة، أمّا الجانب الذّوقي والمعرفي فتلك مسألة أخرى.[1].
كان علاّمة العربية في عصرنا محمود شاكر يحثّ تلميذه البارّ الدّكتور محمود الطناحي على إكمال الدّكتوراه، حين كان يشتغل ليله ونهاره على تحقيق كتاب طبقات الشّافعية الكبرى للإمام السُّبكي، فكان يقول لشيخه: وماذا سأفعل بالدّكتوراه؟ مجلّد واحد من طبقات الشافعية خير من مائة دكتوراه.[2].
لو كانتِ الألقابُ تؤخذُ عن أهلية واستحقاق، لهانَ الخطبُ وانقطع الخطابُ، لكنّ العكسَ هو الواقع، فأصبحت أحيانا تُباع وتُشترى، وأحيانًا تُعطى لبحوث هزيلة، وأحيانًا لبحوثٍ منقولة عن غيرها، وهكذا في سلسلةٍ نَكِدَةٍ من التّخاذل العلمي، فهل يوثق بعد هذا بشهادةٍ أو لقب؟ [3].
هناك كتّاب كبار، ونُقّاد من الطّراز الرّفيع، لهم عدّة شهادات عليا وألقاب نالوها عن استحقاق وجدارة، ولهم بصماتهم الواضحة في الكتابة الأدبية والفكرية وغيرها في عالمنا العربي والإسلامي، ومع ذلك لا تجدهم أبدًا في كتبهم يقدّمون حرف (الدّال) على أسمائهم، ومن هؤلاء: عبد الفتّاح كيليطو، ومحمد حامد الأحمري وغيرهما كثير.. وأيمُ الله إنّها أسماء أكاديمية تُنتج بصمت بعيدًا عن التّهويل. (إنّها تسمو عن التّلقيب بالألقاب، والتّحلية بالنّعوت.. والجواهر تُذكر أسماءً مُجرّدةً، ولا توصف لأنّ معانيها هي أوصافها).
وإنّ من الأسماء نكرات، مغرقة في التّنكير، حُلِّيت بالألقاب، ورُصّت لها ألفاظ التّفخيم والتّعظيم رصّا، سطورًا بعد سطور، لتُعرَّفَ فتُعرَف، فما زادتها إلاّ تنكيرًا وضمورًا وخفاء، ومات أصحابها وما ذُكِروا.[4]
للأستاذ محمود شاكر كلمة أنيقة عميقة تكشفُ شيئا من حال بعض دكاترة آخر الزّمان، يقول فيها:
فأنا أريد أن أسأل -بعد هذا كُلّه- سؤالا واحدًا: أهذا سلوكُ أستاذٍ جامعيّ يحملُ لقبًا يُدلّس به على صغار النّاس وكِبارهم، ويغتال غَفَلاتهم عن عُواره، ثقةً منهم بكرامة هذا اللّقب وكرامة من يحمله؟
وجوابُ كُلّ ذي عقلٍ أو حَصَاة من عقل: لا، ولا كرامة. إذ لم يكن هذا السّلوكُ سلوكَ أستاذٍ جامعيٍّ، ولا مبتدئ جامعيّ، ولا طالب ثانوي، ولا أحد من عُرض النّاس يشدو دراسة الآداب أيًّا كانت، وفي أيّ لُغة شِئت، فكيف أستحلُّ بعد ذلك لنفسي أن ألْزِقَ باسمه لفظَ (الدكتور)؟
لا، ولا كرامة، لن أستحلَّ ذلك، تنزيهًا لهذا اللّقب عن الابتذال، وحماية للنّشء من التّغرير، واستنكافًا أن أغْمِسَ مدادَ قلمي في كذب مفضوح يعين على تغفّل القُرّاء.
وكنتُ أظنّه واجبًا قديمًا على جامعاتنا، أن تعيد النّظرَ في هذه (الإجازات) التي تمنحها بعض جامعات الدّول الكبرى -اليوم- لبعض من يُثبتُ الاختبارُ أنّهم دُخلاءُ:
ما هي هذه الإجازات؟ ولمن تُمنح؟ وعلى أيّ أساس؟…اهـ[5]
قلتُ: فحامل [مثل هذه] الدكتوراه يستطيعُ، في ظِلّ عجز القارئ عن متابعته أو فهم ما يقول، أن يملأ صفحة كاملة من أي جريدة بكلام يبدو عميقًا وخطيرًا، دون أن يحتويَ على فكرة نيّرة واحدة. فهو إما يقول كلامًا سبق لغيره قولَه عشراتِ المرّات، وإمّا يكرر ما يتضمّنه أيّ كتاب مبتدئ في أولويات العلم الذي حصل فيه على الدكتوراه، أو يقرّر بديهيات معروفة للجميع، خبرها متضمن في مبتدئها، ولكنّه يقول كل ذلك بلغة صعبة، يتعمّد أن يكون من المستحيل فهمها على القارئ غير المتخصّص، ويملأ مقاله بالمصطلحات التي يُفترض بغير حق أن القارئ يعرف معناها، ويترجم المصطلح الأجنبي ترجمة حرفية تزيده إبهامًا، مع أنّه كان بإمكانه بتصرف يسير أو إضافة كلمة صغيرة هنا أو هناك أن يجعل الصّعب سهلاً وأقربَ إلى فهم القارئ العربي.
والكاتب يفعل كلَّ ذلك عمدًا، إذ لو لم يفعل ذلك لانفضح أمرُه، ولا تّضح للقارئ ألا شيء هناك في الحقيقة وراء ما يقول، فالكلام مُعاد، أو معروف للجميع، أو غير صحيح أصله. في مثل هذه الحال يكون ذِكر لقب الدكتوراه مقترنًا باسم الكاتب وسيلة فعّالة لإخفاء ضَعف المقال وخوائه، بل قد يكون الوسيلة الوحيدة لجعل نشر المقال ممكنًا أصلاً، إذ يظن القارئ (بل وربما رئيس التحرير نفسه) أنّ كلامًا يصدر من دكتور كهذا لا يمكن أن يكون خاليًا من المضمون أو تافهًا، بل الأرجح أن يكون الخطأ خطأ القارئ الذي عجز عن فهم ما يقرأ، بسبب إما غبائه الطّبيعي وإما قلّة حصيلته من العلم.[6]
بعضُ الصّالحين لم يستطع التّخلّص من ضغط الواقع في اعتبار هذه (الألقاب السّحرية) كلّ شيء، فمع يقينه أنّها لاشيء إلاّ أنّه -دائما- لا يستطيع أن يكتب اسمه دون أن يسبقه بـ(اللّقب)، وتالله لو وضع قبل اسمه ما شاء من ألقاب وشاراتٍ لما أغناه ذلك شيئا. ولكنه اللّقب، فمتى سُلبَ سُلِبَ معه كلّ شيء.
وبعض هؤلاء يُعبّر بطريقة أخرى، فحالما يحصل على شهادة (اللّقب) إلاّ ويسارعُ بوضعها في مكان بارز من مكتبته محاطة بإطار جميل، ولسان حاله يقول: لله أبي. لقد بلغتُ مرتبة الرّاسخين.
وكم من شهاداتٍ يَغُرُّ جمالُها… وقيمتها النّقش الذي في إطارها [7].
في فرنسا لا يستعملون كلمة (الدّكتور) إلاّ للطّبيب لأنّ النّظام الجامعي هناك لا يعير أيّ أهمية لهذا اللّقب بخلاف الشّرق العربي الذي ورثَه عن النّظام التّعليمي الأنكلوساكسوني، هكذا كَثُر دكاترة الأدب بشكل مُقرف وأصبحت أبواب (رسائل القرّاء) في الصّحف والمجلاّت مليئة بتواقيعهم.
على الدّكاترة العرب أن يُؤسّسوا لمعرفة علمية جديدة بدل الجري وراء الألقاب الوهمية التي لا تنتج فكرًا متنوّرًا، فالعِبرة ليست بالألقاب ولكن بالبحث العلمي والفكري والنّقدي والأدبي..[8]
يكفي أن أذكّر القارئ بأسماء رُوّاد الثّقافة المصرية في العقود الأولى من ذلك القرن وحَمَلَة مشاعل الفكر والتّجديد حتّى منتصف القرن (العشرين)، إذ كانت الغالبية العظمى منهم من غير حَمَلَة الدّكتوراه:
العقاد وتوفيق حكيم والمازني لم يحصلوا على الدّكتوراه، بل كان من أسباب نجاح توفيق الحكيم في الأدب فشله في الحصول على الدكتوراه في القانون في باريس، برغم محاولته ذلك خضوعًا لإلحاح أبيه.
وأحمد أمين لم يحصل إلاّ على الدّكتوراه الفخرية بعد أن نشر أهمَّ أعماله بدون دكتوراه.
كان هذا هو حال روّاد الفكر والثّقافة في مصر في النّصف الأوّل من القرن الماضي. وفي النّقد الأدبي كان أكثرهم شهرة وأكبرهم موهبة، باستثناء الدكتور محمد مندور، لا يحملون هذا اللّقبَ، كأنور المعداوي وسيد قطب وسعيد العريان، بالإضافة إلى العقاد والمازني بالطّبع. [ 9]
تحضرني كلمة رائعة للعلاّمة بكر أبي زيد يقول فيها: انظُر إلى أعظَمِ مَعْقِلٍ للعلم في عصورٍ كثيرة (الأزهر)، ولمّا تكاثرَ فيه هذا اللّقب [الدّكتوراه] تساقطَ زَهْرُه، والله المستعان.[10].
ولو أسعدتني القريحة لكتبت في تاريخ الأدب فصلًا أجعل إهداءه للدكتور فلان ليرى أن الله لا يستحيل عليه أن يمنح ملكة الأدب مَن لا يحمل شهادة اختصاص فيه… وأن الشّهادة بلا علم ليست دائمًا أفضل من العلم بلا شهادة.[11].
وأنا هنا لن أتحدّث عن (مجتمع المافيا الثّقافية الذين يعتمدون في كلّ ما يسوقونه على جيش صغير من الجنود المجهولين، الذين يقومون بتجميع الموادّ وصياغتها وتلفيقها، ثمّ إخراجها في أطروحة أو بحث أو مؤلّف يحمل اسمًا رنّانا)، فمن أراد ذلك فليقرأ ما كتبه المُفكّر الشّهير فهمي هويدي في مقالة رصينة بعنوان (دكتوراه للبيع)…
وما أصدق الشاعر محمد رضا الشَّبِيبي العراقي في قوله:

فتنـةُ النّاسِ -وُقِينـا الفِتَنـا-…. باطـلُ الحَمدِ ومَكذوبُ الثَّنـا

لم تزل -ويحكَ يا عصرُ أَفِق-…. عَصـرَ ألقـابٍ كِبــارٍ وكُنـى

حَكَمَ النّاسُ على النّاسِ بمـا….. سمعوا عنهم وغَضُّوا الأعيُنا

فاستَحالت -وأنا مِن بعضِهم-…… أُذنـي عَينــًا وعينــي أُذنــا [12]

ودامت لكم المسرّات…

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) الصّوتُ والصّدى للقاصّ المغربي إدريس الخوري ص 219
2) تجدون هذا الكلام بالتّفصيل في كتاب ظِلّ النّديم ص 43 لوجدان العليّ
3) د. علي العمران في كتابه الجميل / المشوّق إلى القراءة ص 15
4) من كتاب صلاح الأمّة في علو الهِمّة للعفّاني ج 6 ص 446. 447
5) أباطيل وأسمار ردّا على المدعو الدّكتور لويس عوض ص 77. 78
6) عصر الجماهير الغفيرة ص186 للدّكتور جلال أمين / بتصرّف يسير.
7) المُشوّق إلى القراءة ص 16 هامش (1)
8) الصّوت والصّدى ص221
9) عصر الجماهير الغفيرة ص 188 د.جلال أمين
10) تغريب الألقاب العِلمية ص 25
11) علي الطّنطاوي من حديث النّفس / نقلا عن كتاب روائع الطنطاوي ص 198
12) انظر غير مأمور تغريب الألقاب العلمية ص 25 / والمشوق إلى القراءة وطلب العلم ص 16

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *