لما كان من النادر الذي يقاسمه المستحيل هامش الوجود ودولة المرة، أن يوجد صاحب فكر لا يرى الحق محصورا في قناعاته الفكرية والباطل مقصورا في خلاف ما يعتنقه، ويعيش حياته مخلصا في الذود عن حياضه بالنفس والمال والولد. فقد كان من باب المروءة والعفو عن مقدرة تلافي الرد وتجنب الغضب عما صدر ويصدر يوميا عن الذين خذلتهم الصناديق الزجاجية التي هي عنوان ما وصلت إليه صناعة النخب بكثير من الحرية وهامش متقدم من الشفافية؛ يوم كانت عين الصناديق الشفافة والكشافة والوصافة تصدر إليها أفواج من الشعب المثقف الغيور على حصن العلمانية، الحريص كل الحرص أن يبقى الإسلام حبيس الوجدان محبوس الأركان، لقد كان الشعب يومها نظير صنيعه الديمقراطي قرة عين النخبة التي كان قولها فيه يعجب وفعلها في شؤونه بالوكالة يأتي على الحرث والنسل.
مساكين هؤلاء الذين يعيشون هذه الأيام أزمة الانسلاخ، والذين يؤرخون في صمت للهزيمة التي كشفت سرابية الأماني وبقيعة قداسة الشعارات والأغاني، فتحولوا إلى محراب النبز والسب والملاسنة، فصارت قرة عين الأمس ذلك الشعب المثقف الحريص الغيور على عرض الحداثة؛ شعب عطل عقله، وأسرته عاطفته المخدوعة بالخطابات الدينية المدخونة، التي باتت تهدد قلاع الحداثة وحصون الديمقراطية وحمى الحرية.
وبطبيعة الحال فقد تغيرت نظرة النخبة إلى ذلك الجمهور الذي أغدقت عليه قوى الحداثة الملايير، فأقامت له المهرجانات التي أثثت أركانها الثقافية في مغرب الثقافات، نجوم هز الأكتاف ونجمات فتنة العري ومسخ الأرداف، لكنها بعد هذا وزيادة خسرت فيه رهانها، وخرج ليعبر عن أميته التي كان من أبرز تجلياتها أن يوصل القوى الظلامية إلى محافل السياسة النورانية.
لقد كادت النخبة أن تموت كمدا، وهي التي كانت حتى الأمس القريب تحكي في صولة الأسد قضية تجذر العلمانية في وجدان الشعب المغربي، وأن هذه الحرية التي وصل إليها المجتمع العربي لا يمكن أن يتنازل عنها الشعب، لأنها صارت أصلا وما دونها كائنا من كان فهو النادر والشاذ، الذي لا حكم ولا تأثير له على إفادة المدنية الحديثة وضرورة الانغماس في متاعها والانسراب بانبهار وإنابة مع نزوات وافدها الصقيعي الغريب.
لقد سال حبر القوم بغزارة وتشعب المحبور في اتجاهات شتى، فمنهم من بات يستشرف هزيمة الحكومة الإسلامية قبل أن تولد، ويتكلم عن عبثية برامجها قبل أن توجد، واصطفت المعارضة في خندق التوعد والتوغد على هيئة الانقضاض وأهبة الافتراس بجوع وسادية، ومنهم من أخلص إلى مبادئه وخاف أن يخدش تمثال حداثته وغادر محراب الواجهة بحزن وانطوائية، فلا تكاد تسمع لركزه القديم صدى ولا تميزا، ومنهم من تكلس حبر قلمه في باب الإقناع والعقلانية فركب صهوة المزاح والسخرية وجمع سحرة الكاركاتير وسماسرة الأعمدة المؤدى عنها للسطر الواحد، يزيد في المضاربة به الدرهم، وينقص حسب جنس الحمولة وما تأتي حبلى به من أفن وعفن وكذب وبهتان.
وفي هذا الباب كتب حدث في جريدة الأحداث في واجهته الخلفية المتخلفة بحزن وأسى عن ذهاب رجال ونساء الدولة، الذين يتميزون بأناقة مظهر عمادها الوجوه الحليقة والسيقان المكشوفة والمظاهر الأخاذة، ومشكلة حلول محلها حكومة ملتحية يؤثت نشاطها رجال يكسون وجوههم بالزغب الكثيف، ونساء يسدلن عليهن من جلابيبهن، وهي مشكلة عويصة في نظر هذا الحدث المتصابي، فرعّ عنها مشاكل وإشكاليات من بينها كما يذكر استفسارا: هل يحق للمرء أن يحدق في الوزيرة الإسلامية إذا كانت جميلة جدا؟
وبجانب هذا العمود المدخون، فضل صاحب شقشقة آخر أن ينقل بالوكالة غير المفوضة رسالة من مومس صوتت لصالح حزب المصباح إلى شخص أمينه العام، هذا وإن المرء ليتعفف رحمة بحبر القلم ومسطور الورق أن يسترسل ولو بإيجار وإيعاز مع هذه التجليات الموبوءة، والتي تحكي مأساة احتضار أصحابها وتؤرخ لمعاناة موت أفكارهم الدخيلة، وتجتر بين الفينة والأخرى أنينا متقطعا وحسرات متقاربة تصدر عن بعض الصدور التي لازالت تقاوم عنادا وحمية وعزة إثم.
وإنه لمن الغرابة أن تعيش هذه السخائم تحمل بذرة فنائها وعلة هلاكها، مع أن الترياق مبذول محفوظ على مرمى يدها، بل أقرب إلى موطن دائها من حبال أورادها، لكنها آثرت ضنك القدرة على معالم الحياة الطيبة الموعودة في ظل الشريعة السمحة؛ شريعة البناء في حياء، والبدل في غير دجل وخجل، ويا ليتها اكتفت ووقفت عند حد هذا الإيثار المخبول، بل نراها تعدت فراش مرضها لتقيم سرادق عربدتها، وتعتلي منابر خصومتها اللجوج، لتنعت سبيل البصيرة ونور الحضيرة الطوباوية بنعوت الظلامية والرجعية والجهالة المركبة، وهي لا تعلم أولا تريد أن تعلم أن الزمن الذي كانت ترغم فيه المغاربة في جوهم الصحو على حمل المظلة متى ما أمطرت سماء الغرب، زمن قد تجاوزه خريف علمانيتها إلى ربيع صحوة الأمة، وبداية تشكل معالم الإباء بعزة، والحنين بإنابة إلى ذلك الوراء الذي طالما رمته باطلا وزورا بالظلامية والجاهلية، بل وحالت بين رعيل الأمة وبين ماضي حضارة الإسلام؛ يوم كان عين الرجل الأبيض وجنس جينته يدفع الجزية عن يد صاغرة لأجداد كانوا يعيشون على الأسودين ويركبون البغل والبرذون، لكنهم ملأوا الدنيا عدلا، وطفح خيرهم كيلا، وسادوا بإذن الله فضلا.
إن العلمانية التي خرجت الديمقراطية من ترائبها، والتي جعلت جيل القنطرة ميالا لشعاراتها، ميلا كان يزيد في وجدانه هامش سخريته من المنزل المحكم، ويتعاظم حجم كراهيته لرسالة الإسلام، بل وتكبر في ذهنه المعلول ظنون بكونها لا تعدو أن تكون وسائل مختلقة، جيء بها لتخدير الوعي وجعله يركن للغيبيات، وينأى بنفسه بعيدا عن مدنية الحياة بالشكل السلبي الذي يساعد قوى العتو والاستكبار على سرقة ثروات الضعاف، التي زهدت فيها النفوس المنيبة رغبا في الوعد الغيبي ورهبا من الوعيد الخبري.
نعم إنها لغة الإفك الذي ديدنه الاجتراء والافتراء، إذ بمثل هذا وما خفي علينا منه، تتسع دائرة الإلحاد في الأرض، ويكبر قرص الجحود، ولا يغرنك بعد هذا الاتساع والكبر أن تخرج علينا العلمانية بفكرها ومريديه المرة فالمرة، بقصد مدخون وعمد مدخول، بظهور ترتدي في واضحته زي التدين وترفع شعارات الخوف على طهورية الدين الحنيف من أدران السياسة وأوزار مكرها، تلك فعالها المنكرة التي هي صنيعة مكر النابتين بيننا والمنتشرين بين دروبنا والمبثوثين في محيط جغرافيتنا، من جيل الغثاء الذي حول مصدر التلقي ومنهج الحياة في حس خلوف المسلمين إلى مجرد تراث شفاهي لا دخل له في أمور الفرد وشؤون الجماعة، في الوقت الذي صارت فيه قبلة التلقي ومحراب التأسي حضارة الغرب، ويا ليت القوم حاكوا الغرب فيما حاز سلطان الإيجابية والإقناع، ولكن المحاكاة كانت في سلبية الإكراه الذي تلته طواعية كارثة دخول جحر الضب ليس إلا.