الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد فتحتُ المجلد الأول من كتاب “المعسول” للعلامة المختار السوسي رحمه الله تعالى، فوجدته يصف في المقدمة حالَ المغرب في فترتين مختلفتين عاشهما ولمس المفارقة الشديدة بينهما، فأحببتُ أن أبين مما اقتطفته من مقدمته أصلَ الداء العضال الذي انتشر في أوصال أمتنا الإسلامية المغربية وغيرها من سائر الأمصار العربية الإسلامية؛ إذ إن الداء هو نفسه، والأسباب التي أوصلت إليه هي نفسها، والمكر الذي حاق بالمسلمين هو نفسه، وإن اختلف المنفذون له ما بين فرنسي وإنجليزي وإسباني وبرتغالي، ثم أمريكي صهيوني، ثم مسلم جاهل مغرَّرٍ به إلخ..
قال المختار السوسي: ” من طبائع الأيام التحولُ من حال إلى حال.. إننا اليوم في المغرب قد شاهدنا كل شيء إلى تحول سريع؛ فقد كنا نحيا في بيئة لا تكاد تمت إليها هذه البيئة الجديدة بأي لون، كنا في دين وفي عادات وفي هيئات وفي أفكار وفي مقاييس وفي أوضاع، ثم ها نحن أولاء مندفعون إلى ما يعاكس كلَّ ما ألِفناهُ على خط مستقيم.
أمس كان الدينُ ومثُلُه العليا، والتخلقُ به، والتحاكمُ إليه، والحرصُ على علومه، واحترامُ حمَلَته، هو المعروفَ المجمعَ عليه، لا يختلف فيه اثنان.
أمس كانت الحضارة الشرقية هي المعروفة وحدها عندنا، بأذواقها وآدابها وألوانها وهدوئها.
أمسِ كانت عندنا تقاليد محترمة في اللباس وفي اختيار التأثيث، وفي هيأة الجلوس، وفي إقامة الحفلات وفي مزاولة الأعمال؛ فتكونت لنا هيأة اجتماعية توافقُنا؛ لأنها كانت متسلسلة عن الأجداد… وقانونها مرتكز في أعماق النفوس… تلاءمت فيه مقتضيات حياتنا وديننا وعادات مجتمعنا تلاؤما تاما، دين العربية ولغة التدين، وعادات تكونت تحت نظرهما في قطر امتزج فيه العرب والبربر تمازج الماء القراح بالراح.
هكذا كنا أمسِ نعيش عيشة راضية نقر بها عينا، ونرضى عنها كل الرضا، لا نرى بها بديلا، بل لا نظن أن هناك من يحيا حياة طيبة مثل حياتنا التي نحياها في أمسنا الحلو اللذيذ ؛ يوم كنا في عزلة عن العالم.
اليوم: وفي هذا اليوم دهم علينا الاستعمار بخيله ورَجْله، بلونه وفكره، بسياسته ومَكْره، بحضارته المشعة بعلومه الحيوية المادية… فوقع لنا كما وقع لأصحاب الكهف يوم رجعوا إلى الحياة، فوجدوا كل ما يعرفونه قد تغير تغيرا تاما.
وحين كان المغرب لَقِنا حاذقا سريع التطور، مندفعا إلى كل ما يروقه، أقبل بنَهَمٍ شديد على التهام كل ما في هذه الحضارة الغربية العجيبة، التي تُغِيرُ على جميع نواحي الحياة، فتُحدثُ من التغيير ما يجرف التقاليد والأفكار وكلَّ ما يمت إلى العادات.
فإذا بالمغرب يتحول في عهد قصير إلى مغرب آخر يغاير كل ما كان معروفا منه في الأمس، فإذا بأمثالنا نحن الذين كنا نعيش في شرْخ شبابنا في المغرب المستقل قبل 1330 للهجرة ، قد كدنا نكون غرباء في طور شيخوختنا في المغرب المستقل من جديد 1375 للهجرة .
فقد حرصنا أن لا ننكر إلا ما يستحق أن يُنكَر، وأن نحمد كل ما يمكن أن يُحمَد، واجتهدنا أن نساير العصر، وأن نتفهمه فلا ننكر أخذ ما لا بد من أخذه من أساليب الحضارة ونُظُمها وعلومها؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها أنى وجدها، ولكننا مع ذلك نشاهد إسرافا في التحول السريع الذي لم يُراع فيه -حسب أنظارنا نحن المسنين- حكمة ما بين التفريط والإفراط؛ فنحاول أن نجمع بين محاسن أمسِ واليوم، ناصبين ميزان القسط.
فإذا بنا نكاد نعيش الآن على هامش الحياة العادية، التي اندفع إليها هؤلاء الذين يملكون ناصية الحياة الاجتماعية بعد الاستقلال .
وأعظم ما نهتم له شيئان: أحدهما التفريط في المثُل العليا التي لا ترسخ في الشعوب إلا بعد جهود قرون، ومتى اجتُثَّت من أي شعب بمثْل هذه الاندفاعات العمياء، فإن أبناء ذلك الشعب سرعان ما ينحرفون عن الصراط المستقيم في الحياة .
وثانيهما التفريط في المحافظة على اللغة العربية وآدابها التي هي شعار المغرب وكنزه الموروث المحافَظ عليه كلغة رسمية… وليت شعري لماذا كنا نحرص على الاستقلال إن لم تكن أهدافَنا المحافظةُ على مثُلنا العليا المجموعة في أسس ديننا الحنيف؟ والمحافظة على هذه اللغة التي استمات المغاربةُ كلهم عربُهم وبربرُهم في جعلها هي اللغة الوحيدة في البلاد .
ومعلوم ما للمغراويين والمرابطين والموحدين والمرينيين من تمجيد هذه اللغة، وهي دول بربرية صميمة، وذلك هو موضوع العجب ، وأما أن يحافظ الأدارسة والسعديون والعلويون عليها، فإن ذلك أمر طبيعي؛ لأن الجالسين منهم على العرش عرب أقحاح”.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.