التصوف السني بالمغرب حقيقة أم خديعة الحلقة الثالثة أبو عبد الرحمن ذوالفقار بلعويدي

تصوف سني مستقل عن تصوف بدعي؛ وذلك كتعلق من تعلق بقول الجنيد ومن يصرحون من المتصوفة بمثل تصريحه وذلك بقولهم: أن علمهم مقيد بالكتاب والسنة، حيث لا يفي تصريحهم هذا -كما تم بيانه في المقال السابق- بتحديد المراد منه، لكون أن الطوائف الإسلامية كلها بلا استثناء تشارك الصوفية في دعوى التقيد هذه.
أو كتعلقهم أو تعلق بعض المتسننة بدعوى أن ابن تيمية أثنا على بعض أشياخ التصوف، ظنا منهم أن مجرد الاستشهاد بقول ابن تيمية يلجم أفواه محبيه ويقطع أنفاسهم وينهي النزاع معهم.
وحق لهم ظن ذلك، فإن مثل ابن تيمية ليس من السهل تجاوزه وتصعب مواجهته ومجابهته، فهو -رحمه الله- قوي الحجة ساطع البرهان واضح البيان. ولو صدقوا في دعواهم وتمسحهم به لانتقدوا كل ما انتقده هذا الإمام على المتصوفة وذمهم عليه وحذرهم منه.
لكن طاش سهمهم وخاب ظنهم لأن مقياس معرفة الحق عند أهل السنة ليس حب الأشياخ، وإن كان من هو في مقام ابن تيمية. فحبهم وتعظيمهم وإنزالهم له منزلة عالية على غزارة علمه وجهوده التي نفع الله بها، لا يسوغ لهم أخذ أقواله وإيثارها دون نظر أو بصر في أدلته واعتباراته.
وهذا الموقف منهم دليل على براءتهم من الغلو والتعصب وتقديس الأشخاص وأنهم بفضل الله متجردون للحق. وهذا لا يضيره في شيء فحسبه -رحمه الله- أنه اجتهد في حمل كلام من أحسن بهم الظن على أحسن المحامل فهو بين الأجر والأجرين. لاسيما أن المتصوفة لا يستشهدون بابن تيمية إلا بقدر ما يخدعون به من ينخدع بهم. وما أكذب دعواهم هذه، فمواقفهم تدينهم بأنهم أشد خصومه، وأكثر الحانقين عليه.
ولكي تقف على هذه الحقيقة اسألهم عن مؤلفاته؛ ككتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، وكتاب الجواب الباهر في زوار المقابر، وكتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وكتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، وكتاب الرد على الأخنائي، وكتاب الرد على البكري.
أجهد رحمه الله نفسه وأفرغ علمه في تقعيد القواعد وتأصيل الأصول، وإظهار المشكل من كلامهم، وتحرير المجمل من ألفاظهم، وبيان المشروع من الممنوع من أفعالهم. فأوضح لهم الفرق بين الكشف الشرعي والكشف البدعي، والإلهام الشرعي والإلهام البدعي، والاتحاد الشرعي والاتحاد البدعي، والذوق الشرعي والذوق البدعي، والفناء الشرعي والفناء البدعي، والزهد الشرعي والزهد البدعي، والتوسل الشرعي والتوسل البدعي، والذكر الشرعي والذكر البدعي، والسماع الشرعي والسماع البدعي، وزيارة قبر خير البرية الزيارة الشرعية والزيارة البدعية…، إلى غير ما بينه لهم من تفصيلات أبطل بها شبههم، وأدحض بها حججهم، وأسقط بها أعذارهم. وهذه أعمالهم شاهدة على أن المتصوفة في غير واد ابن تيمية.
من أخص خصائص التصوف
سبق أن نبهنا في مقال سابق في عجالة على أن التصوف سواء سنيه وفلسفيه -زعموا- له ظاهر وباطن، وباطنه يخالف ظاهره. وهذا الباطن علم خاص بالمتصوفة يطلقون عليه اسم العلم اللدني أو علم الحقيقة، وخاصيته حسب قولهم تكمن في أنهم يأخذونه عن الله بلا واسطة. عباراته ورموزه وإشاراته ألغاز وضعوها عن تدبير قصد صرف الدخيل عن حقائق يعتقدونها.
والحال هذه حسبنا كتبهم المعتمدة، وأقوال شيوخهم المعتبرين عندهم حتى نقف على أصول طريقهم، ونتعرف على حقيقة مدلولات اصطلاحاتهم وعباراتهم هذه التي تفردوا بها في كتاباتهم عن غيرهم، دون ظن أو تخمين لا دليل عليه لمن يريد التحقيق في كلامهم، وإلا امتنعت معرفة حقيقة مذهبهم.
اسمع أولا إلى القشيري صاحب الرسالة وهو يقرر هذه الحقيقة: “وهذه الطائفة يستعملون ألفاظا فيما بينهم قصدوا بها الكشف عن معانيهم لأنفسهم، والإجمال والستر على من باينهم في طريقتهم، لتكون معاني ألفاظهم مستبهمة على الأجانب غيرة منهم على أسرارهم أن يشيع استعمالها في غير أهلها، إذ ليست حقائقهم مجموعة بنوع تكلف، أو مجلوبة بضرب تصرف، بل هي معان أودعها الله قلوب قوم، واستخلص لحقائقها أسرار قوم”(1).
ومثله ورد عن الطوسي في اللمع: “ولهم في حقيقة التوحيد لسان آخر، وهو لسان الواجدين، وإشاراتهم في ذلك تبعد عن الفهم،..وهذا العلم أكثره إشارة لا تخفى على من يكون أهله”(2).
ويقول الغزالي: “كان أبو يزيد وغيره يقول: ..إنما العالم الذي يأخذ علمه عن ربه أي وقت شاء؟ بلا حفظ ولا درس، وهذا هو العلم الرباني وإليه الإشارة ﴿وعلمناه من لدنا علما﴾ مع أن كل علم من لدنه، ولكن بعضها بوسائط تعليم الخلق فلا يسمى ذلك علما لدنيا، بل اللدني الذي ينفتح في سر القلب من غير سبب مألوف”(3).
وإلى هذا أشار أبو يزيد البسطامي بقوله: “أخذتم علمكم ميتا عن ميت، ونحن أخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت”(4) يخاطب في أول كلامه أهل الحديث إشارة منه إلى علم السند حيث يؤخذ عن طريق الرواية، وفي شقه الثاني يريد المتصوفة إشارة منه أنهم يتلقون علمهم عن الله بلا واسطة.
هنا نعيد طرح إشكال مر بنا في المقال الأول؛ وهو ما الذي كان يريد الجنيد من قوله (علمنا مقيد بالكتاب والسنة) مع استحضار قول التستري (بنيت أصولنا)، وقول البسطامي هذا (ونحن أخذنا علمنا) وهي  كلها تفيد التخصيص؟
هل كان الجنيد يريد العلم الشرعي؟ وهذا بعيد جدا.
أم كان يريد العلم اللدني الذي يختص به المتصوفة دون غيرهم؟
نستمع إلى الجنيد إمام الطائفة وهو يقول للشبلي: “نحن حبرنا هذا العلم تحبيرًا، ثم خبأناه في السراديب، فجئت أنت فأظهرته على رؤوس الملأ”…(5)
انتبه إلى قول الجنيد (هذا العلم)  باستعماله أداة الإشارة، مما يفيد أنه يريد علما خاصا بهم.
بل استمع إلى ابن عربي وهو يقول في كتابه الفتوحات المكية مبينا مراد الجنيد بقوله: (..قال الجنيد “علمنا هذا” يعني الحقائق التي يجيء بها أهل الله…)(6).
وهذا الشعراني يخبرنا بدوره على (أن الجنيد رحمه الله كان يقول: كثيرا للشبلي رحمه الله تعالى:”لا تفش سر الله تعالى بين المحجوبين”)(7).
أما آن لنا أن نتساءل عن ماهية هذا العلم، وعن سر حرص الجنيد على هذه السرية المفرطة(8)؟
تأمل قول أبي الحسين النوري مخاطباً الجنيد وهو من أقرانه: يا أبا القاسم، غششتَهم فأجلسوك على المنابر، ونصحتُهم فرموني على المزابل(9).
واتهام النوري الجنيد بالغش هو إشارة منه على براعة الجنيد في ستر عقيدة المتصوفة، وتفننه في استعماله أسلوب التعمية، وهذا يستدعي منا عند مدارسة كلام الجنيد والتحقق من مذهبه قبل تبني مسلكه كثيرا من الانتباه والتيقظ مع الحيطة والتحفظ.
نعم صعب جدا تقبل هذا الأمر مبدئيا لاسيما إذا ما تعلق الأمر بمن تقرر في ذهنه من خلال ما اشتهر في أوساطنا الرسمية أن المغاربة اختاروا في تدينهم «التصوف السني على طريقة الإمام الجنيد».  لكنها الحقيقة التي لا تبقي حجة لمن لا يريد أن يرى، ويُعَصِّبُ عينه بنفسه كي لا يرى. وهذه نقولهم كلها تدل بمنطوقها على أن الجنيد يكتم سرا ويوصي على عدم البوح به.
——————————–

  • الرسالة القشيرية، لعبد الكريم القشيري: ص:52.
  • اللمع لأبي نصر السراج الطوسي.ص:51، بتحقيق عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي.
  • إحياء علوم الدين ، لأبي حامد الغزالي ص3/33. بتخريج العلامة زين الدين أبي الفضل العراقي.
  • الفتوحات المكية 1/365.
  • التعرف لمذهب التصوف، للكلاباذي ص:145 .
  • 7/177.
  • الطبقات الكبرى للشعراني؛ المقدمة.
  • هذا ما سنراه في المقال القادم إن شاء الله.
  • التعرف لمذهب التصوف ص:146.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *