السياسة في ظل غياب المفكر امحمد الخوجة

 

إن أي بلد يرنو إلى التقدم وتحقيق الازدهار لا بد له من رواد يخوضون معترك الحياة اعتمادا على التجربة والحنكة، ولكن لا يمكن إرساء قواعد أرضية السياسة السليمة والقويمة، إلا بالرجوع إلى الفكر الإنساني الذي حباه الله إياه، ليجتهد في تحقيق إعمار الأرض وخلافتها، وما يمكن أن ينتجه هذا الفكر، على أرض الواقع من مقومات تستلزم النهوض بكل المجالات التي تسهم بشكل أو بآخر في تحقيق الآليات اللازمة للحاق بالركب الحضاري العالمي.

ومما يجعل الإنسان “المفكر” والمهتم بالشأن السياسي المغربي ينتقد، هو ذاك التحصيل الرديئ الذي أحرزته الساحة السياسية وروادها، فلا تعجب من وجود أحزاب تطفح تلو أحزاب، ووجوه تتبدل كلما دعت الضرورة إلى ذلك طمعا في حلم التغيير الذي ينشده المواطنون، ولكن تبقى دار سياستنا على حالها.

والحالة المستقرة في بلادنا، هي أن إطارا معينا، تدور فيه نفس العقليات مع تغيير المهام وتوارث المناصب، مما يفرز نوعا من الاجترار لمتطلبات يضل المواطنون ينادون بها، ولكن لا يتحقق منها إلا النزر اليسير، الذي لا يغني المواطن المغربي ولا يسمنه من جوع.

وعند التتبع والاستقراء، لا غرو أننا لا نجد بين السياسيين المغاربة، إلا ثلة قليلة من المفكرين، بل قل بانعدامها، وما الكلام هنا عن ضرورة وجود المفكر في البوثقة السياسية، إلا لأن السياسي غير المفكر لا يحسن التصرف إلا في تحقيق المبتغيات التي تجر المال لجيبه خاصة، ولذويه بالتبع، مع أن نظره لا يستشرف الرؤى البعيدة، بل يضل تفكيره محبوسا  بين مطالب بسيطة وسطحية.

في الماضي القريب كانت السياسة المغربية لا تخلو من وجود أساطين التفكير، كالمختار السوسي، وعلال الفاسي، والمكي الناصري وغيرهم، والذين أسهموا بشكل كبير في اندحار المستعمر -الذي كان قد تمكن من استنزاف خيرات البلاد-، اعتمادا على منطق التفكير الذي تولدت عنه سياسة حكيمة تخطت بها البلاد كل الصعاب، مع ضعف الإمكانات والعدة والعتاد، وكانت السياسة آنذاك تنتج الأفكار التي تصلح لأن تساير طبيعة البلد وهويته، وتوابثه.

ورجوعا إلى الوراء، ونبشا في التراث الإسلامي لا نكاد نجد أن السياسة تعتمد على التافهين والمغفلين من الناس، وتدبر قصة سليمان في القرآن الكريم، تجد أنه كانت له حاشية عالمة، ساعدته على إحضار ملكة سبأ وعرشها بين يديه، وتأمل العهد المدني الذي عرف عدلا اجتماعيا لا نظير له، ثم انظر إلى سياسة الإمبراطورية العثمانية التي كادت تكتسح العالم بفضل دهاء مفكريها، واقتدي بسياسة الدولة المرابطية والموحدية اللتان قامتا بدعم سياستيهما بالمثقفين والعلماء، حتى ذعر منهما الإفرنجة في تخوم البرتغال.

فوجود المفكرين داخل المنظومة السياسية، هو أمر ضروري في نجاح أي بلد، وما نجاح الدول الغربية اليوم، إلا دليل يبرهن اعتمادها على مفكريها الذين يسهمون في تقدم وازدهار بلدانهم، بل ونظرة واحدة متأملة لدول شرق آسيا تكفي لنستدل بحالتها، على أن وجود المفكر داخل المربع السياسي أمر لابد منه، فهل تملك الصين آبارا للنفط والمنغنيز، وهل تملك اليابان مناجم الذهب والفوسفاط؟؟؟

وهنا يطرح السؤال التالي، ما السبب في عدم اشتغال المفكرين المغاربة بالسياسة؟؟؟ في حين بات الرأي العام يجمع على أن الصرح السياسي أصبح لا يضم إلا حثالة من المتكالبين على ربح صفقات تلو الصفقات، والتي جاءت نتيجة تمكنهم من الاستقرار داخل دهاليز السياسة “المربحة“.

ولعل ذلك هو ما جعل الخطابات الملكية تتوالى لتأتي في صورة تنبه وتشير بقوة إلى أن ثمة خطر جاثم على صدر السياسة المغربية، فكانت الخطابات الأخيرة كلها تشجب التصرفات السياسية التي لا تخدم المواطن بدءا من الإدارة وروادها، والتي كان من المفروض أن تجابه بربط المسؤولية بالمحاسبة، وعند غياب تحقق ذلك، جاء خطاب آخر ينذر بحلول زلزال سياسي، فما المقصود بذلك يا ترى؟؟؟

هل أن الملك أحس بأن السياسة المغربية، تحتاج إلى ضرورة وجود عناصر أخرى جديدة، لتسيير البلاد؟ أم أن معنى كلامه يشير إلى أن الحكومة الحالية غير قادرة على احتواء الوضع السياسي المتأزم في المغرب؟ وفي كلا الحالتين لا بد من وجود مفكرين لفهم الخطابات الملكية، ومنه تكريس العطاء والإنتاج داخل الحقل السياسي والبلاد ككل.

إن غياب المفكرين داخل الإطار السياسي، لا يزيد بالبلاد إلا وقوعا في المطبات التي يصعب الخروج منها، مع هدر للأموال باسم الإصلاح، فيسري العطب في كل المجالات الكبرى والمهمة، من تعليم وصحة وسكن… وإذا استشرى الخلل في تلك المجالات فلن يعيش المواطن المغربي إلا في الضنك المزمن، الذي لن يرفع إلا بوجود سياسي مفكر غيور على وطنه.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *