أن يشغل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العالم بأسره، وأن يكون ذكره على كل لسان في الكرة الأرضية بأكملها، فذلك دليل على علو قدره ورفعة مكانته وأنه عليه الصلاة ولسلام سيبقى الإنسان الوحيد في الدنيا الذي يشغل بال الجميع مسلمهم وكافرهم ومنافقهم، فليس من السهولة بمكان أن يتحدث عنك الجميع بالمدح أو الذم، فليس في الدنيا أشهر من رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، شهرة لم يكسبها الأحياء وكتبها الله لرسوله وهو الميت منذ ما يزيد عن خمسة عشر قرنا.
وسيستمر الأمر كذلك إلى قيام الساعة، فقد شاء الله أن يكون لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن، وأن يكون له حواريون محبون، والجميع كائنون منذ بعثته إلى أن يرث الأرض ومن عليها، وما ذلك إلا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل ورسالته معني بها جميع البشر، وهي تخاطبهم كافة، لذلك يظهر لها البعض العداء كما أظهره أسلافهم من قبل، وتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
لذلك لا ينبغي القلق كثيرا مما يصدر من أعداء الله ورسوله ودينه من وقاحات وسفاهات ودناءات فذلك أمر لن يتوقف، وإنما الذي يختلف هو شكلها وتجلياتها بحسب قوة المسلمين أو ضعفهم، وهو اليوم اتخذ قوة في الإظهار في هذا الزمان لضعف في محبيه ومن يدعي حبه ولهوان أصابهم. وما أصابهم الا لتفريطهم في محبة رسولهم صدقا وحقا، وليس ادعاء بالشعارات الفارغة؛ والعبارات الرنانة؛ والحملات الموسمية؛ والخطب المسجوعة؛ واليافطات والملصقات مبدعة، وهلم جرا مما يتكرر بعد كل إساءة لتعود الكرة من جديد، وربما أقوى وأشد، لكن الغفلة هي المسيطرة على واقع المسلمين الذين يعيدون الكرة أيضا ويحسبون أنهم بذلك ينصرون نبيهم وأنهم يعبرون عن حبهم له بذلك وكفى.
إن حب رسول الله لا يتجاوز عتبة بعض المسلمين وليس سمة مجتمعية أممية، وليس هذا نظرة سوداوية ولكنها واقعية تؤكدها الأدلة والبراهين، وما هذا الهوان الذي أصاب المسلمين في أنفسهم حتى تتكرر الإساءات لنبيهم ثم هم عاجزون عن وقفها أو توقفها رغما عنها إلا دليلا على ما أقول، فليست المحبة شعرا وقصائد وأمسيات ورقص وشطح… إنما هي انقياد واستسلام وخضوع لشرع المحبوب وهذا هو قانون الحب، فليكف المسلمون عن الادعاء ولنغير تصوراتنا الخاطئة عن محبة رسول الله، ولنعلم جميعا أنه في اليوم الذي لا نقدر على مخالفة سنة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم كيفما كانت الظروف والاكراهات فقد وضعنا أنفسنا على سكة المحبة، وأن قطار الإهانة لرسولنا الكريم سيبدأ في التوقف.
ومن أجل الإيضاح والبيان ونحن في زمن انقلاب المفاهيم والتوهم أترك لسيرة الأصحاب أن تكلمنا عن حقيقة هذا الحب ولنا فيهم قدوة وعبرة، فهم خير من أحب رسول الله صلى الله عليه وبرهن على ذلك الحب بالدليل والبرهان الساطع.
فهذا أبو بكر الصديق في الهجرة، يمشي مرةً أمام النبي، ومرةً خلفه، مرةً عن اليمين ومرةً عن الشمال، خوفًا عليه من شيءٍ يؤذيه، ودخلَ الغارَ قبْلَه.
وهذا عليٌّ رضي الله عنه، ينامُ في فراشه، ويتسجى ببرده، وهكذا.
عَنْ أَبِي عَقِيلٍ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ:»أَتُحِبُّنِي يَا عُمَرُ؟»، قَالَ: أَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلا نَفْسِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا؛ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ»، فَقَالَ عُمَرُ: فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الآنَ يَا عُمَرُ»، مصداقا لقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ التوبة:24.
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يمشي متجهاً للمسجد فسمع صوت رسول الله يقول لمن في المسجد: «أيها الناس اجلسوا» فجلس بن مسعود في الطريق، فمرَّ به جمع من الصحابة وقالوا: ما بك جالس في الطريق يا ابن مسعود؟! فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أيها الناس اجلسوا»، وما كان لابن مسعود أن يمشي بعدها!
رحمك الله يا ابن مسعود.
فمواقف الصحابة -وهي أكثر من أن تحصر- تبين لنا وبجلاء أنه لا حق لأحد أن يزعم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يكن قد اتبع سنته في الظاهر والباطن؛ في المنشط والمكره؛ في اليسر والعسر؛ في الرضا والغضب؛ قبل كل شيء وبعده ؛هو ديدن هذا المحب وطبعه بل وشوقه أن يكون متبعا لسنته.
لكن؛ أين نحن من هذا، إنما هي الشعارات الجوفاء الفارغة التي تجعلنا أضحوكة أمام المستهزئين من الكفار والمنافقين فيتجرؤون أكثر، جرأة لن تنتهي إلا بعد أن تتحول الشعارات إلى ممارسة واقعية مجتمعية في جميع مفاصل الحياة؛ فردية أو جماعية، فهذا هو الحل ولا حل سواه والله اعلم.
وصلى الله على الحبيب.