قيد الحرية.. وحرية القيد دة.صفية الودغيري

 

 

إنّ ما نَراه اليوم مِنْ تَعْبيرات مادِّية لا تَرْقى مَرْقى التَّدَبُّر في تلك الأَسْرار الكونيّة، لا تَصِل إلى مَعْرفة الحَقيقة الكاشِفَة لكَوامِن النَّفس في أَقْصى غاياتها ومُنْتَهى مَداركِها، لارْتِباط الإنسان بالجسَد بمَعْزِل عن الرُّوح، ولإِسْرافِه في الإِقْبال على الشَّهَوات وصَبواتِها، فلا يُبْصِر من خِلالها إلا حجُبًا كقِطَع اللَّيل المُظْلم، وأَخْيِلَةً من الصُّوَر، والأَشْكال، والهَيْآت، وظِلال الأَلْوان الباهِتَة، توقِظُ في داخِله مَزيدًا من الرُّكود، يَفْصِل إِحْساسَه عن الانْجِذاب إلى ما تُصْدِره هَزَّات الرُّوح وانْفِعالاتُ النَّفس، فيُصيبه السُّكون والجُمود، ويَلْتَبِس بجسَدِه كالوَباءِ فيوهِنُه..

وهذا الرُّكود قد أنْتَج في هذا العَصْر ما يُشْبِه الجاهِليَّة القَديمة، إلاَّ أنَّها جاهِليَّةُ العَصْر الحَديث تَجْمَع مِنْ سَكراتِ الأَرْواح لعُشَّاق الشَّهَوات والمَلذَّات، ولها عِبادَةٌ كعِبادَة الأَوْثان والأَصْنام، ولكنَّها بأَسْماء أُخْرى وأَنْواع جَديدة، وأَشْكال تُوافِقُ المَدنِيَّة الحَديثَة، وتَنْشُر أَوْهامَها وأَوْهام المَذاهِب المادِّية، وتُصادِقْ على شِعاراتِها الكاذِبَة، مِنْ إِشاعَة للحُرِّيَّة بوُعودِها الزَّائِفَة، بنَشْر العَدالة والمُساواة الإِنْسانِيَّة..

وقد حَمانا الدِّين الإِسْلامي من هذه الجاهِليَّة، وهذا العبَث القائِم على الإيمان بفَلْسَفة الغَريزة، وفَلْسَفة الشَّهَوات الحُرَّة أو ما يُسَمُّونَه اليوم “بالأدَب المَكْشوف”، كما يُصَوِّر أُصولَه وقَواعِدَه عُشَّاق المدَنِيَّة الغَرْبِيَّة الحَديثَة والمُنَظِّرين لها..

ولو تتَبَّعْنا آيات القرآن الكريم سنَجِد ما يُخالِف ذلك، ويُحَذِّر مِنْ فِتَن الجسَد، ويُؤَكِّد على ضَرورة تَحْقيق التَّوازُن بين سَتْر الإنسان لسَوْءَتِه باللِّباس، والاعْتِدال في التَّزَيُّن والتَّجَمُّل، وبين سَتْر عُيوبِ النَّفس وسَتْر عَوْرَتِها بلِباسِ التَّقْوى، والتَّحْذير مِنَ التَّكَشُّف والتَّعَرِّي، لأنَّه من أَسْباب الانْحِطاط وفَسادِ الفِطْرة، ومِنْ أَسْباب انْحِراف الذَّوْق، وهَلاكِ الأُمَم وتَصَدُّع أَرْكانِها..

كما جاء في قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.

وقوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾.

وقوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾.

وقد نقلَتْ إلينا هذه الجاهِليَّة الحَديثَة ثَقافَةً دخيلَة على مُجْتمعاتِنا العَربِيَّة والإِسْلامِيَّة، حيث صارَتْ تُطالِب بتَحْقيق العَدالة والمُساواة بين الجِنْسَيْن، حتى فيما يُخالِف أَحْكام الشَّريعَة والفِطْرَة، وصارَتْ تُطالِب بحُرِّية المرأة وانْعِتاقها مِنْ سُلْطَة الرَّجل وحِمايَتِه..

وللأسَف فقد وجدَت هذه الثَّقافة مَنْ يُسانِدها وسَط نُخَب من المُتقَّفين الجدُد، المُنَظِّرين لها والمُدَرِّسين لقِيَمها ومَبادئِها، ووسَط الجَمْعِيَّات والمُنَظَّمات النِّسائية، حيث تمَّ عَقْد المُؤْتمَرات والنَّدَوات للدِّفاع عن حُقوقِ المرأة، وَفْقَ تصَوُّراتٍ غَرْبِيَّة تَعْمَل على تَفْعيل أَبْعادِها الرَّمْزِيَّة والسُّلوكِيَّة في الواقِع العَربي، ضِمْن نُصوص تَشْريعِيَّة وقانونِيَّة وتَقارير دَوْلِيَّة، اشْتغَلت على إعادَة هَيْكلة سُلوك المرأة، وتَرْشيد عَلاقَتِها بجسَدِها كمِلْكٍ خاص، له ذِمَّةٌ مُسْتَقِلَّة وله حَقٌّ في التَّعْبير بلا قُيود ولا شُروط مُلْزِمَة، وذلك اسْتِجابَةً لمُتطَلَّبات التَّنْمِيَّة والتَّفاعُل مع مُخْتَلف مَشاريعِها، للنُّهوض بأَوْضاع المرأة وحِمايَة حُقوقِها.

ولكنَّ هذا التَّرْشيد لم يَكُنْ إلا تَضْليلاً للعَقْل والفِكْر، ونَوْعًا جديدًا من التَّطْبيع داخِل مُجْتمعاتِنا، حيث تَحَوَّلت المُطالبَة بحُريَّة الجسَد، إلى ذريعَة للثَّوْرَة على الدِّين والأَخْلاق والفَضيلة، ونَبْذِ التَّقاليد والأَعْراف، والنُّظُم الاجْتِماعِيَّة العَربِيَّة والإِسْلاميَّة..

كما تَحَوَّلت إلى ذَريعَة للثَّوْرَة على الطَّبيعَة والفِطْرَة الإِنْسانِيَّة المُناسِبَة لكلِّ جِنْس، ونوع جديد من الانْفِلات الصَّارِخ من القُيود والضَّوابِط، والالْتِزامات والعُقود، ونَوْع منَ التَّمَرُّد على وَحْدة المُراقَبة والمُتابعَة القانونِيَّة والأُسَرِيَّة، وذلك كان من مُخَلَّفات سوء الفَهْم والاسْتيعاب للمَعْنى الحقيقي للحُرِّية، ولمُمارساتِها وتَطْبيقاتِها التي تَخْتلِف مِنْ مُجْتَمع لآخَر..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *