ما أحلى أن يتجرد المرء للحق وما أحلى أن يعلق حلة الانتساب إلى حين، ما أحلى أن نجعل العصمة لله ورسوله وما دونهما فراد ومردود عليه.
وما أحلى أن نضيف إلى هذا التجرد والتعليق والجعل فرضية الاستشراف لكل فكر إذا هو ما ساد واستمكن وكانت له الصولة والدولة المطلقة، وعليه لن نقول اليوم أننا سلفيو العقيدة والسلوك في مقابل أن نجرد الآخر هو كذلك من حلة الصوف؛ فلن نقول أنهم صوفيون قبوريون مبتدعون لكننا على التو سندخل باب المطارحة لنقعد لدعوى فئتين تخاصمتا في محبة عظيم.
فئة من الناس لا يطيب لها العيش ولا الحل ولا الترحال ولا إخراج النفس المنفوسة؛ ولا تنعل نعلا؛ ولا ترجل شعرا؛ ولا أمر خراءة؛ ولا لبس حلة؛ ولا حف شارب؛ ولا إعفاء لحية؛ ولا أمر سواك؛ ولا حجاب بكر؛ ولا نقاب ثيب؛ ولا تأسيس أسرة؛ ولا نسيكة ولد؛ ولا تلاوة قرآن؛ ولا نسك أضحية؛ ولا ذكر ذكر؛ ولا حكم حاكمية؛ ولا تشريع نص؛ ولا عدل وضع؛ ولا تبعية هوى؛ ولا صلاة قيام؛ ولا إمساك صيام؛ ولا تبرع ولا تطوع ولا زكاة؛ ولا شد رحال ولا حج ولا عمرة؛ ولا ذكرى ولا عيد؛ لا محيا ولا ممات.. إلا ويتكلفون النفس ويوجهون الطبع لصبر غور تركة هذا العظيم حذو القذة بالقذة.
أسوتهم في كل ما سبق هذا العظيم؛ وسبيلهم إلى هذه التركة ليس حدثني قلبي عن ربي؛ بل سند موصل إلى صحابة كرام، حفظوا هذه التركة وذادوا عن حياضها بالسيف والرمح والسنام والفكر والحفظ والفهم البعيد عن فلسفة الكلام.
فكان منهم الحفظة المهرة لكتاب رب الأرباب المستوعبين للقراءات التي أخذها نبينا وحيا عن ربه، وكان منهم أهل الأثر الذين اعتنوا بالحديث فميزوا بين الغث والسمين، والصحيح والسقيم، فكان منهم رواد في الدراية وآخرون في الرواية.
وكان منهم أهل التفسير الذين نخلوا الأمثال والقصص التي وضعها الوضاعون ونسبوها إلى لازم قول الحق المبين.
وكان منهم من اعتنى بالفقه وفروعه واقتحم ثغور ما راكمته المدارس الفقهية الكبرى.
وكان منهم أهل التزكية الذين لم يشغلهم العلم بتفاصيل الاسلام في باب الشريعة والشعيرة على أن يسطروا قواعد منضبطة في السلوك أيما انضباط مع ما جاء به الشرع الحنيف، أسوتهم في ذلك هذا العظيم وصحبه الكرام والتابعين لهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وهؤلاء كانوا على الحق والصدق من جنس أولئك الذين استقسم بهم هذا العظيم على ربه لما قال: “يا رَبّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ العِصَابَةُ فَلَنْ تُعْبَدَ فِـي الأرْضِ أبَدا”؛ وليس هذا من باب التألي على الله ولكنه من باب ما اقتضته حكمة الله عز وجل وفضله وعدله في باب ربط الأقدار الشرعية بعلل إيجادها وأسباب إيقاعها.
وفئة لا يطيب لها العيش ولا الحل والترحال ولا إخراج النفس المنفوسة إلا في مخالفة الهدي ودرس السنن وتورية المتواتر من الوحي، واتخاذ الأنداد من دون الله؛ وتربيب سكان القبور والأضرحة والمشاهد؛ واختراع العبادات والأوراد والأذكار والصلاة على هذا العظيم خارج دائرة محجته؛ صلاة قد يعدل بعضها ستين ألف ختمة من مصدر تشريعنا الأول.
إضافة إلى تفشي مظاهر ما يسمى بالسماع والتغني بالأشعار الشركية؛ التي يصاحبها دق الطبول؛ والنفخ في مزامير الشيطان؛ وهز الأكتاف وطأطأة الهامات؛ بتأثير وتأثر لا يحصل معهم عند سماع خطاب الرحمن وتلاوة القرآن.
وياليت شعري متى كان في ديننا الغناء سنة متبعة، ورحم الهو ابن تيمية إذ قال: “إنما عبادة المسلمين الركوع والسجود، أما العبادة بالرقص وسماع الأغاني فبدعة يهودية تسربت إلى المنتسبين إلى الإسلام”.
ويا ليت الأمر وقف عند هذا المنعطف بل زاد الانعراج والتسفل من حدته في باب العقيدة والمعتقد؛ فبينما نقر بأن لنا الله وحده تذللا وتعظيما؛ تضرعا وتوسلا ودعاء؛ كان لهم: “يا أبا يعزى ويا جيلاني ويا كامل ويا مشيش ويا شافية!”.
أما هذا المرسل العظيم والنبي الكريم ففي ظل ما يعتقدونه من “رجعة” فإنهم يؤمنون الإيمان الراسخ بإمكانية مقابلة الرسول بعد موته يقظة؛ وأنه وباليقين يحضر حلقهم وحضرتهم؛ فهو عندهم ما زال يعطي بعض المعارف والتشريعات والحقائق لمن يشاء من شيوخهم.
وهكذا ولما تربى الخطأ وترعرع في ثوب الصواب؛ ونشأت الخطيئة في حلية الفضيلة؛ وتربضت قلوب وتغلفت أخرى؛ وصار بينها وبين الحق برزخ لا يبغيان؛ وجدنا من أدعياء المحبة هؤلاء من لا يتورع بكل صفاقة ودناءة في السخرية من أهل الالتزام؛ حتى صارت سنة إعفاء اللحية وحف الشارب معرّة؛ وصار تقصير الثوب وإسبال الحجاب تطرفا وظلامية؛ بل صار الاستنان بسنة سيد الخلق وسام غربة بلغ نصابها أن تكون تفجيرا فكريا يقدح في سماحة الإسلام واعتداله ووسطيته!
والسؤال الذي يطرح نفسه بعد هذه المطارحة التي شابها التجريد من باب الافتراض الاستشرافي:
ماذا كان يكون لو أن هذا الصنف من الأدعياء كان له التمكين وسادت معالم فكره واستأثرت بعلاقة العبد بربه؟
ماذا كان يكون مصير ما قال في حقه الله سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا}؟
أكان يكون لنا مشروع حفظة مهرة ومحدثين بررة ومفسرين طهرة؟!
وهل بعد هذا يمكن لواحد من هؤلاء أن يزايد علينا بمحبة هذا صنيعها؛ وهرطقات وشطحات تقعد للحب وتغرق في القرب وتفني في ذات الرب؟
ثم أين هؤلاء من هموم الأمة وأحوالها التي تقر بها عين العدو الذي تداعى على قصعة ثرواتنا وأخلاقنا وهويتنا وسيادتنا؟
ولكن الأمر كما يقال أنف ولهؤلاء الخلف سلف، كان الواحد منهم وقد سقط بيت المقدس في يد الصليبين عام 492هـ مع أتباعه يقرر لهم كيف أن الجمادات يمكن أن تخاطب الأولياء ثم ينتقل للكلام لهم عن مراتب الولاية؛ من صحو وإغراق وفناء.
وهذا ابن عربي وابن فارض عاصرا الحروب الصليبية فهل يا ترى سمعنا لهم أو سجل لهم التاريخ في ساحة الوغى ركزا مركوزا وكرا معزوزا؟
لقد كانا في عزلة وحياد بشع يشرعنون ويصوغون للمظلومين عبر عقيدة وحدة الوجود تحريم رفع السلاح في وجه الغزاة، ولا شك أن نتيجة ذلك الاستشراف الافتراضي وهذا الانعزال السلبي عن قضايا الأمة والركون إلى غسقية الأساطير والخرافات التي يعيش المريد في مستنقعها اللجي بعيدا عن مجتمعه، ولربما بعيدا عن أقرب الناس إليه؛ هي التي جعلت دراسات معاهد استراتيجية غربية لا ترقب في الاسلام إلاّ ولا ذمة تولي بالغ الاهتمام وكامل الحرص والرعاية لهذا المروق الرجعي.
ولربما كنا في حاجة إلى تذكير من يرفعون اليوم في وجه الأمة شعار التصوف السني بالمؤتمر الذي عقده مركز “نيكسون” في أمريكا يوم الرابع والعشرين من أكتوبر عام 2003 تحت عنوان “فهم الصوفية والدور الذي ستلعبه في رسم السياسة الأمريكية” حيث كان الهدف الذي سطره المنظمون وحملوا شعاره في واجهة الزيف هو إعادة الريادة والانتصار للإسلام الوسطي.
وقد يغنينا العنوان في باب الدلالة عموما عن مظنة التفصيل؛ فالأسماء كانت ولا تزال قوالب معاني؛ لكننا نقذف في وجه رواد كذبة التصوف السني الذي لا نعرف له مكانا ولا نعلم له أهلا؛ بسؤال مفاده:
ماذا كان يعني مشاركة الكاتب الأمريكي بيرنارد لويس الذي يعد من أكبر أعداء الاسلام المعاصرين في هذا المؤتمر السالف الذكر؟
وأي دور كان له في صياغة مواد وبنود ومبادئ ومعالم الإسلام الكلاسيكي الذي تعد الصوفية -باصطلاحها- “الغوث” الرباني الذي تحتمي بعجيب قدرته قوى الاستكبار العالمي في مواجهتها للإسلام السني السلفي؟