بعد المستجدات الأخيرة التي عرفتها الساحة التربوية الوطنية، والمتمثلة أساساً في شبه الإلغاء لبيداغوجيا الإدماج، والذي سيتحول إلى إلغاء كامل بكل تأكيد في المستقبل القريب، يحق لنا أن نتساءل:
أين مكمن الخلل في بيداغوجيا الإدماج؟
أهو في الفاعل المدمِج؟
أم في المادة المدمجة؟
أم في عملية الإدماج في حد ذاتها؟
إذا نحن بدأنا بالاحتمال الأخير، فلن يختلف اثنان ولن ينتطح عنزان في الجوانب الإيجابية العديدة لبيداغوجيا الإدماج، والتي يمكن إجمالها في: إيجاد روابط بين التعلمات المجزأة والمواد المنفصلة. ثم التعرف على مكامن القوة والضعف لدا المتعلمين، إضافة إلى إبراز الفائدة من التعلمات، وربط المتعلم بمحيطه واستثمار تعلماته في حياته اليومية، من خلال تحويل ما هو نظري إلى ما هو تطبيقي عملي، وبالتالي دمجه بشكل فعال في وسطه ومجتمعه.
هذه الأهداف هي مبتغى ومطمح كل نظام تعليمي، وكنا نتمنى أن تترجم على أرض الواقع يوم بشرنا بهذه البيداغوجيا، وظننا أنها المنقذ من الركود الذي عاشته منظومتنا التربوية منذ سنين إن لم نقل عقودا. ومعلوم أن الإدماج جاء لتفعيل وأجرأة مقاربة الكفايات، حيث تعد بيداغوجيا الإدماج الامتداد الطبيعي لهذه الأخيرة.
والإشكال هو أن بيداغوجيا الكفايات التي هي أساس هذا البناء، لم يتم استيعابها بالشكل المطلوب، لعوامل عدة، منها أن هذه البيداغوجيا لم تحظ من التكوينات مثل ما حظيت به سليلتها بيداغوجيا الإدماج، فكان الأساتذة وما زالوا يشتكون من الكفايات مفهوما ومنهجا وعملاً، فكل ما يبنى على أساس هش ومغشوش، مآله إلى السقوط، حتى وإن كان البناء العلوي ذو متانة وقوة.
هل الخلل في الفاعل المدمِج؟
المقصود بالمدمِج، الممارس لعملية الإدماج في الفصل الدراسي. هذا الطرف الفاعل والمؤثر في العملية اعترف بعدم مواكبته لما جاء به الإدماج، وعدم مسايرته للإيقاع المرتفع الذي فرضته، وذلك بسبب ضعف التكوين المقدم له في هذا الإطار، إذ إن الأيام التكوينية الخمسة جاءت على عجل، وكانت على شكل محاضرات مقدمة من طرف أناس غير مؤهلين لهذه المهمة، والذين تلقوا بدورهم سويعات قليلة، تحصلوا بعدها على لقب مؤطر وخبير… وكما يقال: فاقد الشيء لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه (والحكم هنا للمجموع وليس للجميع، فالاستثناء لا يخرق القاعدة). فقصر مدة التكوين بالنسبة للمدرسين وضعفها، كان يستدعي تكويناً إضافياً، وتتبعاً للتمثل والتطبيق للمقاربة على الميدان، وهذا ما لم يقع.
بعد هذه الساعات المعدودة على رؤوس الأصابع، وجد الأساتذة أمامهم كراسات لوضعيات إدماجية لم يعلموا كيف تقدم ولا كيف تقسم على الغلاف الزمني لمدة الإدماج، فكثرت الاجتهادات وتعددت التأويلات. فتبين الشرخ الكبير بين النظري الذي تلقوه والتطبيقي الذي هم في خضمه.
ومن الوثائق الأساسية التي كان يجب إرفاقها مع هذه الكراسات استعمال الزمن لأسبوعي الإدماج، إضافة إلى شبكات التصحيح والتحقق. ونؤكد هنا على أن الاعتراض الرئيسي كان متعلقا بالتقويم الذي يتطلب مجهودات مضاعفة داخل وخارج أوقات العمل، من خلال تسطير وتعبئة شبكات عديدة لم يتعود على مثلها من قبل، الشيء الذي أثقل كاهل الأستاذ وأفرز عدة ردود أفعال سلبية. مع هذا التخبط كله، نسجل غياب شبه تام لهيئة التأطير التربوي، التي كان عليها متابعة العملية خطوة بخطوة لتجلية الغموض ورفع اللبس.. فكانت النتيجة الطبيعية لهذا الوضع، هي النفور أحيانا والمقاطعة أحيانا أخرى.
هل الخلل في المادة المدمجَة؟
معلوم أن أسبوعَي الإدماج كما جاء في التخطيط الزمني يأتيان بعد ستة أسابيع لإرساء الموارد. لكن الغالبية من المتعلمين يعانون من نقص كبير في الموارد، فوجب التفكير في البحث عن الموارد الملائمة وإرسائها بالشكل المناسب، قبل التفكير في الإدماج، لأن هذا الأخير يدور مع الموارد وجودا وعدما، فإن وجدت وجد، وإن عدمت عدم.
فكان من الأولى والأليق البحث عن طرق لتدارك النقص الكبير في اكتساب المعارف والمهارات وتحصيلها، وكذا الاجتهاد في إيجاد آليات لتجاوز الفروق الفردية الشاسعة الملاحظة في فصولنا الدراسية، والتي تحول دون تحويل وإدماج المكتسبات إلا للنزر اليسير من المتعلمين.
ينضاف إلى هذا عدم ملاءمة الكتب المدرسية الحالية لبيداغوجيا الإدماج، الشيء الذي نتج عنه قطيعة بين الأسابيع الستة لإرساء الموارد وأسبوعي الإدماج، حيث أن المتعلمين يتم نقلهم بعد الأسبوع السادس إلى شكل غير مألوف من أشكال العمل، الأمر الذي يبقي العديد منهم خارج التغطية طيلة فترة الإدماج. وكان من الأفيد اختيار تنظيم بيداغوجي تدريجي للتعلمات، وهو اقتراح روجيرس كزافيي في بادئ الأمر، والذي وصفه بالغني، وهو النظام المشتمل على ثلاثة أسابيع لتعلم الموارد يليها أسبوع واحد للإدماج بدل ستة أسابيع للموارد وأسبوعين للإدماج.
من خلال ما سلف ذكره يتضح أن فشل بيداغوجيا الإدماج، راجع بالدرجة الأولى إلى طريقة تنزيلها في وسطنا التعليمي بدون دراسة للواقع الاجتماعي والتربوي المغربي، كما هو الحال في تنزيل الأحكام الفقهية التي وضع لها الفقهاء ضوابط منها فقه الواقع، فكذلك كان على “فقهاء” التربية قبل استيراد بيداغوجيا الإدماج وتنزيلها بشكل قصري، دراسة الواقع التربوي، وقياس مدى قابليته لمثل هذه المستجدات، حتى يكون التنزيل سليماً ومنسجماً مع ثقافتنا وخصوصيتنا.
إذن فإضافة إلى عدم استيعاب المبادئ النظرية للإدماج، وقبله لبيداغوجيا الكفايات، وكذا ضعف تكوين المدرسين، وضعف المتمدرسين، نؤكد على التسرع في تنزيل هذه البيداغوجيا، وعدم توفير الأجواء المناسبة لذلك، إذ كان بالإمكان تحقيق نتائج أفضل من المحصل عليها، بالنظر إلى الإمكانات البشرية والمادية واللوجستية التي تم توفيرها.
خلاصة القول أن الإدماج هو بيداغوجيا كغيرها من البيداغوجيات، لها ما لها وعليها ما عليها، وهي ليست شراً كلها كما يصفها البعض، بل حتى وإن لم يكتب لها الاستمرار بالشكل الذي تم تسطيره، فحبذا لو تم استغلال الأفكار الإيجابية التي جاءت بها، ولو بشكل ضمني في الكتب المدرسية التي هي قيد التأليف والمزمع إخراجها في المستقبل القريب، وأن لا تقبر كل المجهودات التي بذلت، بل ينبغي اقتباس ما هو مفيد منها، لأجل كتابته على صفحة جديدة، حتى وإن طويت هذه الصفحة.