التواضع.. أنواعه وأقسامه

التواضع أعظم نعمة أنعم الله بها على العبد، قال تعالى: {فبما رحمة من الله لنتَ لهم ولو كنتَ فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} آل عمران/159، وقال تعالى: {وإنك لعلى خلقٍ عظيم} القلم/4، وهو قيامه صلى الله عليه وسلم بعبودية الله المتنوعة، وبالإحسان الكامل للخلق، فكان خلُقه صلى الله عليه وسلم التواضع التام الذي روحه الإخلاص لله والحنو على عباد الله، ضد أوصاف المتكبرين من كل وجه. (المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ السعدي 5/442-443).
وللتواضع أسباب لا يكون المسلم متخلقّاً به إلا بتحصيلها، وقد بيَّنها الإمام ابن القيم بقوله: “التواضع يتولد من العلم بالله سبحانه، ومعرفة أسمائه وصفاته، ونعوت جلاله، وتعظيمه، ومحبته وإجلاله، ومن معرفته بنفسه وتفاصيلها، وعيوب عملها وآفاتها، فيتولد من بين ذلك كله خلق هو “التواضع”، وهو انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل والرحمة بعباده، فلا يرى له على أحدٍ فضلاً، ولا يرى له عند أحدٍ حقّاً، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قِبَلَه، وهذا خلُق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبُّه، ويكرمه، ويقربه”. (الروح ص 233).
وقد جاء في ثواب التواضع الفضل الكبير، ومنه:
عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما نقصت صدقةٌ من مال، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزّاً، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله”. رواه مسلم (2588) وبوَّب عليه النووي بقوله: استحباب العفو والتواضع.
قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: “وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله”: فيه وجهان: أحدهما: يرفعه في الدنيا، ويثبت له بتواضعه في القلوب منزلة، ويرفعه الله عند الناس، ويجل مكانه.
والثاني: أن المراد ثوابه في الآخرة، ورفعه فيها بتواضعه في الدنيا.
قال العلماء: وقد يكون المراد الوجهين معا في جميعها في الدنيا والآخرة، والله أعلم. (شرح مسلم 16/142).
والتواضع يكون في أشياء، منها:

1. تواضع العبد عند أمر الله امتثالاً وعند نهيه اجتناباً
قال ابن القيم: فإن النفس لطلب الراحة تتلكأ في أمره، فيبدو منها نوع إباء هرباً من العبودية، وتتوقف عند نهيه طلباً للظفر بما منع منه، فإذا وضع العبد نفسه لأمر الله ونهيه: فقد تواضع للعبودية. (الروح ص 233) بتصرف.

2. تواضعه لعظمة الرب وجلاله وخضوعه لعزته وكبريائه
قال ابن القيم: فكلما شمخت نفسُه: ذَكَر عظمة الرب تعالى، وتفرده بذلك، وغضبه الشديد على من نازعه ذلك، فتواضعت إليه نفسه، وانكسر لعظمة الله قلبه، واطمأن لهيبته، وأخْبت لسلطانه، فهذا غاية التواضع، وهو يستلزم الأول من غير عكس. (أي يستلزم التواضع لأمر الله ونهيه، وقد يتواضع لأمر الله ونهيه من لم يتواضع لعظمته).
والمتواضع حقيقة: من رزق الأمرين، والله المستعان. (الروح ص233).

3. التواضع في اللباس والمشية
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “بينما رجل يجرُّ إزاره من الخيلاء خُسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة”. رواه البخاري 3297.
ورواه البخاري (5452) ومسلم (2088) من حديث أبي هريرة، ولفظ البخاري: “بينما رجل يمشي في حلُّة تعجبه نفسه مرجِّل جمُّته إذ خَسف الله به فهو يتجلجل إلى يوم القيامة”.
يتجلجل: ينزل في الأرض مضطرباً متدافعاً.
مرجل جمته: الترجيل هو تسريح الشعر ودهنه.
والجمة: هي الشعر المتدلي من الرأس إلى المنكبين.

4. التواضع مع المفضول فيعمل معه ويعينه
عن البراء بن عازب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل معنا التراب يوم الأحزاب، ولقد رأيته وارى التراب بياض بطنه. يقول: لولا أنت ما اهتدينا نحن ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزلن سكينة علينا، إن الألى وربما قال الملا قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا أبينا يرفع بها صوته. رواه البخاري 6809 ومسلم 1803.

5. التواضع في التعامل مع الزوجة وإعانتها
عن الأسود قال: سألتُ عائشة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله -تعني: خدمة أهله-، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة. رواه البخاري 644.
قال الحافظ ابن حجر: وفيه: الترغيب في التواضع وترك التكبر، وخدمة الرجل أهله. (فتح الباري 2/163).

6. التواضع مع الصغار وممازحتهم
عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس خلُقاً، وكان لي أخ يقال له “أبو عمير” -قال: أحسبه فطيماً- وكان إذا جاء قال: يا أبا عمير ما فعل النغير. رواه البخاري 5850 ومسلم 2150.
قال النووي: “النُّغيْر” وهو طائر صغير.
و”الفطيم” بمعنى المفطوم.
وفي هذا الحديث فوائد كثيرة جدّاً منها: …ملاطفة الصبيان وتأنيسهم، وبيان ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من حسن الخلُق وكرم الشمائل والتواضع. “شرح مسلم” (14/129).

7. التواضع مع الخدم والعبيد
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا أتى أحدَكم خادمُه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين فإنه وليَ حرَّه وعلاجَه”. رواه البخاري 2418 ومسلم 1663.
ومعنى “ولي حرَّه وعلاجه”: أي عانى مشقة صُنع الطعام والقيام على تقديمه، وفي رواية مسلم “وليَ حرَّه ودخانه”.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتواضعين لعظمته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *