الغرب والربيع العربي.. عبر التسلسل الزمني ذ.الحسن العسال

بما أن الغرب لم يكن صانع الثورات العربية، بل تفاجأ بها، على الرغم من جيوش المخابرات التي ينشرها عبر طول العالم العربي وعرضه، فإنه يبدو في حيرة من أمره، لأنه تلكأ أول الأمر، بضغط من المصالح المباشرة لبعض أعضائه، أو لعدم وجود مصالح حيوية لأعضاء آخرين. فهو، كما هو معلوم، وكما عودنا عبر تاريخه، لا تحركه الإنسانية ولا حقوقها، وإنما هذه أمور تأتي تباعا، ليضحك بها على المغفلين من بني جلدتنا.
إن الغرب بعد قراءته للأحداث القريبة التي سبقت الثورات، وأخص بالذكر غزوه للعراق وأفغانستان، والتي لم يحقق فيها مصالحه كما خطط لها، طفق يضرب الأخماس في الأسداس، ويحك راحتيه وصدغيه، لما فوجئ بالثورات العربية، وأخذه الشباب العربي على حين غرة منه، ومن مخابراته ومخططاته، ولله في خلقه شؤون، وله سبحانه وحده الأمر من قبل ومن بعد.
أقول لما فوجئ الغرب بهذه الثورات، التي اقترح بعضهم خلالها إجراء استفتاء، ودعا آخرون إلى ضبط النفس، فيما أبدى ثالث قلقه، ورابع لم يحرك ساكنا، مع أن الغرب ليس من عادته أن يختلف حول أزمة تخص العالم العربي كل هذا الاختلاف.

الربيع التونسي
انتظرت “الدول العظمى” الثلاث فرنسا وأمريكا وبريطانيا ثلاثة أسابيع، على انطلاق الثورة التونسية، لتخرج بعدها بتصريحات “خجولة”، والخجل منها براء، تدعو فيها لضبط النفس، في تواطؤ فاضح آنذاك مع طاغية تونس، حفاظا على مصالحها “الحيوية”، و”خوفا” من تدفق المهاجرين إلى أوربا عبر بوابة تونس البحرية، وتوجسا من صعود التيار الإسلامي.
بل بلغ بوزيرة الخارجية ميشيل أليو ماري آنذاك من الصفاقة، بأن طالبت بإرسال قوات فرنسية لإنقاذ بن علي، لأنها كانت تربطها به وبزوجته ليلى الطرابلسي، الحاكمة الفعلية لتونس، علاقة قوية.
واتُّهِمَت ميشيل أليو ماري بأنها زارت تونس نهاية دجنبر رفقة زوجها باتريك أولييه -وهو أيضا وزير- على متن طائرة يملكها رجل أعمال تونسي. بينما كانت الثورة ضد بن علي قد اندلعت، مما نتج عنه ضجة كبيرة في الأوساط السياسية الفرنسية، لا لشيء إلا لأن الأمر فضح، فما كان من بعض الأحزاب -خصوصا الاشتراكية- إلا أن طالبت باستقالتها، فيما أصرت الوزيرة على التشبث بمنصبها، وهذا كله ليس حبا في سواد عيون التونسيين المقهورين، بل لتسجيل النقط على حزب ساركوزي، حيث قال النائب الاشتراكي فرانسوا هولان “إما أن يدافع عن أليو ماري -ويقصد ساركوزي- ويبقي عليها… ويتحمل العواقب في انتخابات الرئاسة عام 2012؛ وإما أن يتخذ قرارات ويقوم بخيارات بخصوص التشكيل الحكومي”؛ إلا أنه بعد أسابيع من الجدل اضطرت الوزيرة لتقديم استقالتها.
وكان الناطق الرسمي الفرنسي قد صرح مُسَوِّغا الموقف الفرنسي المتخاذل تجاه آلة القمع في تونس قائلا: “نظرا لعلاقات الصداقة بين فرنسا وتونس وللتاريخ المشترك بين بلدينا، الذهاب أبعد من ذلك سيفسر على أنه تدخل. وهذا الأمر لا يدخل في الخط الدبلوماسي الفرنسي”.

الربيع المصري
وفي 25 يناير حثت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري جميع الأطراف على ضبط النفس، وأكدت على أن الحكومة المصرية مستقرة، وفي اليوم الموالي أي 26 يناير، أعربت ألمانيا عن قلقها إزاء أحداث مصر، ودعت القاهرة إلى احترام الحقوق والحريات لمواطنيها. لماذا هذه السرعة في التفاعل مع الأحداث؟
لأن الثورة التونسية علمتهم الدرس لما فاجأتهم.
أما فرنسا التي كان خطها الدبلوماسي لا يسمح بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول، فقد عبرت عن “أسفها لسقوط قتلى خلال المظاهرات.. ودعت الحكومة المصرية لاتخاذ المزيد من الخطوات الديمقراطية”.
ففي فاتح فبراير، وبعدما أعلنت الأمم المتحدة عن مقتل أكثر من ثلاثمائة مصري خلال الاحتجاجات، دعت فرنسا إلى وقف حمام الدم، وجمع أوباما فريقه القومي في نفس اليوم لبحث الوضع في مصر.
وفي 2 فبراير خرج البيت الأبيض ليقول بكل “براءة”: “إذا كان مبارك وراء العنف فيجب أن يتوقف”!
وفي 4 فبراير واجه الكونغريس الأمريكي استخباراته بانتقادات، لفشلها في التنبؤ بالثورتين التونسية والمصرية.
وبعد ثمانية عشر يوما من الثورة سقط مبارك، وأعربت المستشارة الألمانية ميركل بتنحي الرئيس المصري، ووصفت التغيير بالتاريخي.
هكذا يتلون الغرب كالحرباء، لا مبادئ ولا قيم، يتصرف كأخس ما يكون، وبنو علمان يقدسون مواثيقه الدولية، التي يخيطها على مقاس ثقافته!

الربيع اليمني
بعد يوم من سقوط مبارك اندلعت الثورة اليمنية، التي لم تجد لحد كتابة هذه السطور، الاهتمام مما يسمى بالمجتمع الدولي، على الرغم من انشقاق العديد من القيادات الحزبية والمدنية والعسكرية والقبلية، وعلى الرغم من حمامات الدم التي نشرتها كل الفضائيات العربية والأجنبية. على الرغم من كل هذا، ساد الصمت الرهيب إلى حدود 21 مارس حيث أطل البيت الأبيض بوجهه البشع ليكتفي بمجرد القول: “أبلغنا الحكومة اليمنية أن العنف ضد المتظاهرين غير مقبول”.
وفي المقابل، وبالضبط في 23 مارس وبعد ساعات من تفجير حافلة في القدس، أدانت هيلاري كلنتون الحادث، كما أدانت الصواريخ التي سقطت على فلسطين المغتصبة!
هكذا يكون الكيل الأمريكي والغربي. وبنو علمان لازالوا يقدسونه، ويضغطون في اتجاه أن نخضع لإملاءاته باسم شعارات حقوق الإنسان والحداثة ومسايرة العصر والكونية.
والسؤال المطروح في الأزمة اليمنية هو:
لماذا لم يمارس الغرب ضغوطه على صالح؟
بل ادعى بأنه سيحدث فراغ في السلطة، إن غاب صالح عن المشهد السياسي؟
وهو نفس الادعاء الذي رُوِّج له إبان الثورة المصرية، هذا الفراغ الذي -حسب زعمه- ستملؤه القاعدة، مما يدل دلالة واضحة لا لبس فيها أن الغرب، كما عهدناه، لا يهمه سقوط القتلى من الأبرياء، ولا يهمه اختيار الملاييين من الشعب، لأن الديمقراطية لا تعلو على لغة المصالح الغربية، وعلى رأسها أمريكا.
وفي 6 من أبريل أعرب متحدث باسم وزارة الحرب الأمريكية، بكل صفاقة: “واشنطن ترفض العنف، لكنها لازالت تقدم الدعم العسكري للنظام اليمني”.
وبعد إصابة علي صالح، ومغادرته إلى السعودية، التقى السفير الأمريكي في صنعاء “نائب الرئيس”، ليطبخوا طبختهم، دون اكتراث بحق الملايين في تقرير مصيرهم، وعلى الرغم من الإصابات البليغة التي عمت جسد صالح، خرج إلى الرأي العام ليردد ما أملته عليه أمريكا، مع أنه لم يعد صالحا حتى لحكم أسرته، فكيف بحكم شعب!

الربيع الليبي
انطلقت الثورة الليبية في 17 فبراير، وبعد خمسة أيام من ممارسة كتائب القذافي القتل بدم بارد، خرجت علينا وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري بالقول: “حان الوقت لوقف حمامات الدم في ليبيا، لأن هذا أمر غير مقبول”.
وفي اليوم الموالي لم يجد أوباما ما يقوله، على الرغم من حمامات الدم، إلا تأكيده على أن حماية الأمركيين أولوية في ليبيا، مع الإشارة إلى حق الليبيين في تقرير مصيرهم.
وبعد كل المجازر التي قامت بها الكتائب تفضل البيت الأبيض، في 25 فبراير، بمجرد “تعليق نشاط السفارة الأمريكية في ليبيا”، وفي اليوم الموالي حث أوباما القذافي على الرحيل.
وبحلول مارس بدأ الحديث عن الحظر الجوي الذي تزعمته الدبلوماسية الفرنسية، ضدا على توجهها المعلن إبان الثورة التونسية المفاجئة.
وفي فاتح مارس طالب وزير الخارجية الألماني باستطلاع رأي الليبيين والعرب قبل الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي! وانتظرت ألمانيا بعد هذا التصريح الغبي أكثر من ثلاثة أشهر لتعترف بالمجلس الوطني الانتقالي في 13 يونيو، وبعدها كندا بيوم.
وعندما بدأ الحظر الجوي، الذي لم يُستَُثْنَ منه الثوار، ومنذ أول يوم بدأت تقارير التكاليف العسكرية، تخرج تباعا، وهذا ما لم يحدث في العراق ولا في أفغانستان إلا بعد سنوات، مع العمل على إطالة أمد الحرب، بتعمد عدم قصف الكتائب القذافية في العراء، وتم منع الثوار من التقدم نحو البريقة، ومن الحصول على السلاح، وكان التلويح بالتدخل البري، بل بلغ الأمر بأن اتهمت لجنة للأمم المتحدة بأن الثوار ارتكبوا “أفعالا قد ترقى إلى جرائم حرب”، وهذا مالم تجرؤ على البوح به، في حق أمريكا التي تقوم بالمجازر في أفغانستان والباكستان بشكل شبه يومي، وكان آخر ما أتحف به الغرب الشعب الليبي، هو كما صرح بذلك الترهوني مسؤول إنتاج النفط في المجلس الوطني الانتقالي، “نكوص الغرب عن وعده بمد المعارضة بالأموال”، إلى درجة أن أعلن المجلس أن خزائنه شبه الفارغة أصلا بدأت تنفد.
كل هذا قصد ابتزاز الثوار الليبيين، وتقديم التنازلات، كان آخرها إجراء مفاوضات غير مباشرة مع عقيد الإجرام، للتنحي والبقاء في ليبيا، بعد كل هذه المجازر.
ثم أتت القاصمة الأخرى من وزير الخارجية الإيطالي فراتيني، حينما دعا إلى تعليق الأعمال الحربية بدعوى فتح ممرات “إنسانية”.

الربيع السوري
بعد أن تأججت التظاهرات في سورية في 25 مارس “سارع” البيت الأبيض -في اليوم نفسه- إلى التنديد بشدة “بالقمع الوحشي”. وبعد المجازر التي اقترفها بشار ونظامه، أعلنت واشنطن يوم 12 ماي أنها لم تقرر بعد رحيل الأسد!
والآن، وبعد ما يقارب الثلاثة أشهر من المجازر البعثية، التي يندى لها جبين الإنسانية، حيث تم استهداف الآمنين بالدبابات والطائرات، كما تم قتل الأطفال وتعذيبهم والتمثيل بجثثهم، ومن لم يمتثل لهذا الإجرام تمت تصفيته غدرا من الظهر.
بعد كل هذا، والغرب “الإنساني إلى النخاع”!! لازال متفرجا، مع بعض التوابل المسماة عقوبات.
فلماذا هذا التلكؤ في قنص الفرصة للقضاء على “أكثر الأنظمة ممانعة في المنطقة”؟!
الجواب سهل ولا يحتاج إلى حذاقة سياسية، أو إلى ذكاء خارق، فليس هناك ممانعة ولا مقاومة ولا شيء من هذا القبيل!
لأن حزب البعث أسد على شعبه، وفي الحروب نعامة، وإلا لماذا لم يطلق رصاصة في الجولان منذ احتلاله؟
أم أن المقاومة أصبحت بالكلام دون الرصاص!
بل لماذا كلما قصفه الكيان الغاصب اكتفى بالقول “لسورية حق الرد في الزمان والمكان المناسبين”.
أما عندما انتفض شعبه ضده، لم يفه بكلمة واحدة، بل جيش الأمن والعسكر نحو الجولان، إلا أنه توقف في درعا، ليقتل وينكل بشعبه، أما الجولان فلا قبل له بها، ولسان حاله يقول من أراد أن يذهب إلى الجولان ليحررها فليذهب، إنا ها هنا قاعدون، وعلى صدور الأبرياء جاثمون، إما أن نحكمكم أو نقتلكم.
ولما توالت مجازره، تداعى الشعب في جميع أنحاء سورية، والغرب لازال ينتظر عن أي شيء ستسفر المواجهة، مع العمل في الخفاء على إعداد الطابور الخامس الذي سيطفو على السطح، إن أمسك الأحرار الصادقون زمام الأمور، أما الآن والنظام البعثي حامي حمى الكيان الغاصب من أي مقاومة في جبهة الجولان فهو خير له من المجهول.

خلاصة
من هذا كله، يظهر أن الغرب، لما باغثته الثورات، أراد ركوب الموجة، بغية التقاط أنفاسه، وإعادة حساباته، وترتيب أوراقه من جديد، ليلتف عليها في السر، بعدما أيدها في العلن. والأدلة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار لكل ذي عينين؛ والأمر يشمل كل الثورات دون اسثناء، لأن الغرب من مصلحته العليا والاستراتيجية، ألا تقوم للعرب قائمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *