مَن في هذه الدنيا يخلو من الابتلاءات أيا كان نوعها؟
ومن في هذه الدنيا صفت له الحياة من كل جوانبها؟
حتى الأنبياء والمرسلون لم يسلموا من ابتلاءاتها ومنغصاتها؛ فليست الدار الدنيا دارا للراحة الكاملة أو السعادة الدائمة ما على هذا طُبعت، قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}(البلد:4).
والناس في تعاملهم مع مصائب الدنيا وابتلاءاتها ومنغصاتها أنواع شتى، فمنهم من يصبر وإن كان غير راض، ومنهم من يصبر ويرضى، ومنهم من يجزع ويتكلم بالكلام السيئ ويفعل عند وقوع ما يؤلمه الفعل القبيح، وهذا القول السيئ والفعل القبيح هو الجزع المذموم، قال الله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} (المعارج). (فيَجْزَع إن أصابه فقرٌ أو مرضٌ، أو ذهابُ محبوبٍ له، مِن مالٍ أو أهلٍ أو ولدٍ، ولا يستعمل في ذلك الصَّبر والرِّضا بما قضى الله)(من تفسير العلامة السعدي رحمه الله).
قال الجاحظ: (وهذا الخُلُق -أي الجَزَع- مُرَكَّب مِن الخُرْق (أي الجهل والحمق) والجُبْن، وهو مستقبح إذا لم يكن مجديًا ولا مفيدًا).
أما الصالحون الذين عرفوا حقيقة الدنيا ورضوا وصبروا على الأقدار المؤلمة فلهم شأن آخر.
انظر إلى نبي الله يعقوب عليه السلام حين ابتلي بفقد ولده الحبيب يوسف عليه السلام لم يجزع ولم يتكلم إلا بالكلام الطيب فقال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (يوسف:18). إنه صبر لا جزع فيه كما قال مجاهد رحمه الله تعالى.
وانظر إلى أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما حين بلغها ما يتكلم به بعض الناس -زورا وإفكا- في حقها قالت: والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف، {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
أتجزعُ ممَّا أحدثَ الدَّهرُ للفتى وأيُّ كريمٍ لم تُصبْه القوارعُ
أما أهل الجزع فإنهم على خطر عظيم وهذا مثال على ذلك، فعن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كان فيمن كان قبلكم رجلٌ به جُرْح، فجَزِعَ، فأخذ سكِّينًا، فحَزَّ بها يده، فمَا رَقَأ (أي ما توقف)، الدَّم حتى مات، قال الله تعالى: بَادَرَني عبدي بنفسه (أي استعجل الموت)، حرَّمت عليه الجنَّة”.(البخاري).
فانظر إلى جزعه حين لم يصبر على الألم قد ساقه إلى هذا الحرمان العظيم.
وعن محمود بن لبيد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا أحبَّ الله قومًا ابتلاهم (أي ليطهرهم من الذنوب)، فمَن صبر فله الصَّبر، ومَن جَزِع فله الجَزَع”.(رواه أحمد وغيره، وصححه الألباني).
إن الجزع عند وقوع ما يؤلم العبد في نفسه أو في عزيز لديه أو في شيء من الدنيا خلق مذموم ينتج عن مرض القلب وتعلقه بالدنيا وضعف يقينه بالقدر، وفرق عظيم بين هذا الداء وبين رقة القلب التي هي في الحقيقة رحمة حتى لو حملت صاحبها على البكاء أحيانا لكن صاحب القلب الرقيق المؤمن بقضاء الله وقدره لا يتكلم أو يفعل سيئا.
وقد أوضح الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى الفرق بينهما وبيَّنه بيانا شافيا حين قال:
(والفرق بين رِقَّة القلب والجَزَع: أنَّ الجَزَع ضعفٌ في النَّفس، وخوفٌ في القلب، يمدُّه شدَّة الطَّمع والحرص، ويتولَّد مِن ضعف الإيمان بالقَدَر… فمتى عَلِم أنَّ المقَدَّر كائنٌ -ولا بدَّ- كان الجَزَع عناءً محضًا ومصيبة ثانية. أمَّا رِقَّة القلب فإنَّها مِن الرَّحمة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرَقَّ النَّاس قلبًا، وأبعدهم مِن الجَزَع، فرِقَّة القلب رأفةٌ ورحمةٌ، وجَزَعُه مرضٌ وضعفٌ، فالجَزَع حال قلبٍ مريضٍ بالدُّنيا، قد غشيه دخان النَّفس الأمَّارة، فأخذ بأنفاسه، وضيَّق عليه مسالك الآخرة، وصار في سجن الهوى والنَّفس، وهو سجنٌ ضيِّق الأرجاء، مظلم المسلك، فانحصار القلب وضيقه يجعله يَجْزَع مِن أدنى ما يصيبه ولا يحتمله، فإذا أشرق فيه نور الإيمان واليقين بالوعد، وامتلأ مِن محبَّة الله وإجلاله، رَقَّ وصارت فيه الرَّأفة والرَّحمة، فتراه رحيمًا رقيق القلب بكلِّ ذي قُرْبَى ومسلم، يرحم النَّملة في جحرها، والطَّير في وَكْرِه، فضلًا عن بني جنسه، فهذا أقرب القلوب مِن الله تعالى).(الروح لابن القيم).