من حقنا أن نبادر إلى طرح السؤال الذي يبحث في ماهية التغييرات التي دشنتها السياسة الخارجية الإيرانية والتي حملت المغرب بعد عشية وضحاها في التفكير أو الهرولة في مسعى إعادة ربط العلاقة بإيران وفتح أبوابه أمام الوافد الفارسي الصفوي.
لنؤسس بادئ الأمر الكلام على حسن القصد وسلامة الطوية، ولنقرأ بعد هذا التأسيس أسباب القطيعة التي حصلت بين الدولة الفارسية والمملكة المغربية على ما روجت له وسائل الإعلام الرسمية، وتبنته بعقيدة الولاء والبراء منابر الجمعة من طنجة إلى الكويرة فصال فرسانها بعيدا عن أي رقابة أو خطوط حمراء إذ بدا أن الأمر أمر “نكون أو لا نكون”.
وهكذا سجل المغرب استياءه الكبير مما رآه عبثا إيرانيا يهدد الأمن الروحي للمغاربة ويقدح في صفاء عقيدته عقيدة أهل السنة والجماعة ووحدته المذهبية المالكية، بالإضافة إلى ما كان يراه المغرب “قصرا وحكومة وشعبا” من نوايا وتطلعات توسعية لإيران في منطقة الخليج العربي، وعلى رأسها ما تعرضت وتتعرض له مملكة البحرين الشقيقة.
وهي أمور نختزل فيها الدوافع التي سرعت بالمغرب إلى اتخاذ جملة من الإجراءات التي جاءت مباشرة بعد قيام إيران باستدعاء السفير المغربي بطهران وإبلاغه استياءها من بعض تصريحات المغرب في هذا الخصوص، تلك الإجراءات التي تمثلت في طرد السفير الإيراني باعتبار أنه شخصية غير مرغوب فيها ومن ثم إعلان حالة قطيعة على المستوى الدبلوماسي بين البلدين.
ولعل الإبقاء على الكلام في دائرة ما تأسس عليه من حسن قصد ونية ابتداء يجعل الأمور في باب القطع والطلاق البائن يسير في المنحى الذي يكرس القطيعة والبينونة الكبرى بل ويزيد في اتساع الخرق والهوة بين البلدين، ذلك أن المغرب الذي بنى قواعد القطع على ما رآه تدخلا سافرا في القضايا الدينية لرعاياه، وكذا للخطاب التوسعي الفارسي الذي لا يرى في البحرين إلا ولاية تابعة لنفوذ وسلطان دولة ولاية الفقيه، بات يعلم اليوم بما تزكيه شواهد الواقع وركام الأحداث المأساوية المتشكل من ثالوث الصوت والصورة والرائحة تورط إيران في أكثر من ثغر سني شقيق.
تورط تجاوز الدعوة والدعم من بعيد إلى المشاركة الفعلية بالعدة والعتاد والرجال، حيث صار من المعلوم للكل حجم ومدى تلطخ اليد الإيرانية وسواعدها في المنطقة بدماء إخواننا السنة في كل من العراق واليمن وسوريا.
سوريا ذلك البلد الذي تجمعه بالمغرب روابط تاريخية ومواقف سياسية وعسكرية كان من أبرزها للذكرى فقط مشاركة الجيش المغربي النظامي في حرب أكتوبر 73 دفاعا على أرض سوريا الشقيقة وما قدمه يومها المغاربة المهاجرون من دماء تعطرت بها أرض الملاحم أرض الشام المباركة.
وعليه ودون مغادرة دائرة حسن القصد والنية أصبح من حقنا أن نبادر إلى طرح السؤال الذي يبحث في ماهية التغييرات التي دشنتها السياسة الخارجية الإيرانية والتي حملت المغرب بعد عشية وضحاها في التفكير أو الهرولة في مسعى إعادة ربط العلاقة بإيران وفتح أبوابه أمام الوافد الفارسي الصفوي.
فهل يا ترى سجل واقع إيران تغييرا على المستوى الدعوي والتوسعي الاستقطابي المصدر للرفض والمذهب الجعفري، ذلك المذهب الذي نص عليه دستور إيران الذي توج به الخميني عهده في مادته الثانية عشرة حيث جاء فيها: “المذهب الإثنا عشري يبقى إلى الأبد المذهب الرسمي لإيران والغير قابل للتغيير”.
ويهمنا في هذا النص وضع خط أحمر سميك تحت كلمتي “الأبد” و”الغير قابل للتغيير” لنقف على حقيقة ربما وفي دائرة حسن القصد والنية مرة أخرى غابت عن وزير خارجيتنا السيد صلاح الدين مزوار وهو يمد يده لنظيره الإيراني، تلك هي حقيقة أن إيران دولة عقائدية طائفية بامتياز قد لا يهمها الاقتصاد والتعاون والتبادل، فكلها أمور لا تحظى بالأولوية في أجندة تحركها الذي تحكم خطواته بين الحال والمآل عقيدة الولي الفقيه والتي تكلم عنها الخميني في كتابه “الحكومة الإسلامية” في معرض حديثه عن إمكانية تحقق الوحدة الإسلامية من خلال مذهبه لا مذهب سواه، أي أن يتشيّع الراغبون في هذه الوحدة مستشهدا فيما ذهب إليه من تصور بقول منسوب إلى سيدة نساء الجنة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم “طاعتنا نظاما للملة وإمامتنا أمانا من الفرقة”.
وإننا حينما نطرح السؤال عن ماهية المتغير في سياسة إيران الخارجية نعلم ونملك من المعطيات ما يطرد الشك والتردد من حول حقيقة أن شيئا لم يتغير، اللهم إلا إذا قصدنا بفعل التغيير الانتقال من السيئ إلى الأسوأ ليس بخصوص الغير بمفهوم قطري يجعل الذئب يأكل من الغنم القاصية فقط، بل كذلك بمفهوم الأنا الوطني في مقام الخصوصية المغربية التي حولها يدندن الاتجاه الرسمي، الذي بات يمتلك الإحصاءات العددية للمغنم الشيعي من الرعايا المغاربة.
ذلك أن إيران وهي تسعى إلى إعادة فتح الأبواب الأمامية لسفارتها بالرباط، فهي بالمقابل لم تنس عبر استعمال الأبواب الخلفية أن تستبق مرحلة الاقتحام الرسمي بتوجيد أذرع لها وأتباع لعقيدتها من الشباب المغربي في بلاد المهجر يمكن أن تستعمل ظهورهم ليس للتطبير والجلد فقط، ولكن كجسور ومطايا تستطيع عبرهم أن تتسور محراب الثغر المغربي السني.
وقد تم لها مراد السبق حيث تم استهداف الأمن الروحي لمغاربة المهجر على اعتبار أنهم الفئة الأكثر سهولة في باب المناورة والاختراق، من جهة ما كانت تعلمه عبر تقارير أعينها هناك التي كانت تحكي حالة الهشاشة الدينية وترهل حبل المشيمة الذي يربط المغربي بوطنه الذي غادره بعد خصومة في الدنيا لا في الدين.
وقد استطاعت إيران عبر مراحل، وفي ظل غياب أي رقابة متخصصة وبرامج تأطير هادفة رسمية إذ الأمر موكول في هذا الباب كما لا يخفى إلى الكدح غير الرسمي المتمثل في جماعة الدعوة والتبليغ، ولسنا هنا في باب التفصيل في أدبيات الجماعة ومنهجها ولكن هذا لا يمنع أن نحكم على هذا التوكيل والتعويل في باب المدافعة بالفشل الذريع، استطاعت أن تستدرج وتستميل إلى عقيدتها عددا من مغاربة بلجيكا وهولندا وفرنسا، الذين تكفلوا بدورهم بنقل العدوى إلى من يرتبطون بهم من أهل الرحم والمحلة والصحبة.
ولا تزال الجهود المخادعة المهادنة في مكر وتقية تترادف وتتناسل وتعمل معاول هدمها تارة في السر وأخرى في العلن، علن يدعو إلى الكثير من الغرابة من جهة ما نسجله ونلمسه من سكوت رهيب قاتل مميت للجهات الرسمية الدينية بل حتى الأمنية، والأغرب أن نشم رائحة أخبار تحكي حكاية انحناء هذه الجهات الرسمية أمام بعض المطالب المتصاعدة للمتشيعين المغاربة قصد حصولهم على ترخيصات تبيح لهم الخروج من سرداب نبيهم وجحر ضبهم، والانضواء تحت مسميات من قبيل الخط الرسالي، وأنشطة متدثرة بدثار المعرفة والثقافة في إطار المتاح، مع الإبقاء على جذوة المطلوب أصالة متقدة إلى حين عودة العلاقة الإيرانية المغربية إلى سقف التعاون والتعارف المرجو والمقصود.
ولا شك أنها عودة ستعطي للخلايا الشيعية النائمة في يقظة نصيبا مهما من الإشارات التي ستتجاوز التلميح إلى التصريح بواجب الانتصار لآل البيت وبث محبتهم وبيعة أئمتهم بين صفوف عوام المواطنين المغاربة وسدجهم، ولسنا في حاجة إلى تذكير الجهات الرسمية بلوازم هذا الأمر إذ أكدت التجربة في محيط من سبقنا إلى الإصابة بهذه العدوى إلى الوقوف على كيف تنفصم عروة المواطنة عند معشر المتشيعين وتتبدل في وجدانهم وجهة الولاء وإحساس المواطنة من مسقط الرأس إلى تعلق الروح، إلى “قم” حيث تتربع مؤسسة الولي الفقيه على قلوب شيعة العالم جنود نائب ولي الزمن المعمم خامنئي.
وليست أخبار شيعة اليمن والبحرين والعراق ولبنان ببعيدة عن مرمى سمع وبصر المسئولين المغاربة، اللهم إذا تخلصنا من دائرة ما أخذناه على أنفسنا من تعهد وتعاهد لحسن قصد وسلامة نية حينها لا نستبعد قراءة أن الفصيل العلماني له حساباته وتدبر مقاصده في ما نسجله عليه من انحناءات متتالية لهذا الوافد الذي يتهددنا والذي من شأن السماح لركزه بين ظهرانينا أن يؤسس ويبني قواعد الطائفية الدينية، ويستشرف تغولها ولو بعد حين.
حينها يمكن استبعاد المعطى الديني من المقاربة الإصلاحية في باب التحاكم والحاكمية، إذ ستطفو على السطح تفوق الفكرة العلمانية في تجليها الكوني والإنساني الذي من شأنه أن يذيب جليد الطائفية وأن يستخرج كير الخلافات بين الأوزاع والأطياف الدينية المتنابذة في تضاد وأن يحول بين الأمة المغربية وإمكانية اقتحامها أتون فتنة التنازع الذي يذهب ريحها.
فتدبر ما ذهبنا إليه من كلام تجد أننا لم نغادر محراب حسن القصد وسلامة النية ذلك الشرط الذي أسسنا عليه مطلع الكلام ولم نتحلل منه في مقطع ما كشفناه من غاسق ظلام.