ثم قست قلوبكم

 

في أثناء حديث القرآن الكريم عن قصة بقرة بني إسرائيل، أخبر سبحانه عن قسوة قلوب أولئك القوم بقوله: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة} (البقرة:74) فالخطاب في الآية لبني إسرائيل، بيد أن حمله على العموم لا تأباه أصول التفسير، بل هو الأليق بمقاصد القرآن الكريم، ومن ثم نقول:

إن الآية الكريمة تصور حالة محزنة مخيفة من حالات قسوة القلب؛ فالقلب القاسي ليس كالحجارة فحسب، بل قد يكون -وفق منطوق الآية- {أشد قسوة} بل إن الله تعالى ذكر فضل الحجر على بعض البشر، وذلك ما أفصحت عنه تتمة الآية، يقول عز شأنه: {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله} (البقرة:74).

فالله سبحانه يذكر فضل وتميز الحجر على بعض قلوب البشر، ويذكر من فضائل الحجارة أنها من لينها ومطاوعتها تنشق، فينساب من بين جوانحها الماء الزلال، أو تهبط وتتردى خضوعاً وتذللاً لله سبحانه.

وقد لاحظ أحد أئمة التفسير من التابعين -وهو الإمام قتادة- هذه المقارنة القرآنية بين الحجارة وبعض قلوب بني آدم، فعلق تعليقاً بديعاً، قال فيه: “عذر الله الحجارة، ولم يعذر شقي بني آدم”؛ ذلك أن القلب إذا قسا خسر القدرة على الاتصال بالله سبحانه، ومناجاته، والتضرع إليه.

ويحدثنا القرآن عن صورة أخرى من صور قساوة القلب، وذلك على ضوء ما يقدره الله على العباد من كوارث كونية، يريد منهم اللجوء إليه، والتضرع له، ولكن من ابتلي بقسوة القلب يفلس في الوصول إلى هذه اللحظات الراقية، يقول تعالى: {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون، فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم} (الأنعام:42-43) فالله تعالى يقدر المرض والمجاعة والحروب والفقر، يريد من عباده اللجوء إليه، والتضرع له، بيد أن قسوة القلب تكبل قساة القلوب، فلا يستطيعون الوصول إلى هذه المنزلة العظيمة.

وقساوة القلب لا تقف بصاحبها عند هذا الحد، بل تدفع بصاحبها إلى التماس المخارج بتأويل النصوص؛ لتوافق هواه، وليي أعناقها؛ لتعزز مساره، كما قال تعالى في وصف تأثير قسوة القلب على تحريف النصوص: {وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه} (المائدة:13).

ومن حكمته سبحانه أن جعل في النصوص الشرعية مواضع مشتبهة، ومكن الشيطان من الإغواء كوناً وقدراً، فيلقي الشيطان أمام قلوب الناس لذائذ الشبهات، وكلاليب الحيل والمكايد. فلا يصبر ويُسَلِّم للنصوص، ويترك مواضع الاشتباه إلا من رقت قلوبهم بالإيمان. ولا يطيش عقله أمام هذه النصوص، فيتخذها تُكأة لتقصيره إلا من قسا قلبه، قال تعالى: {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم} (الحج:53).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *