قراءة في كتاب: (23) الوصيَّة الذهبيَّة للشَّبيبَة المغربيَّة أبو معاوية طيب العزاوي

العنوان: الوصيَّة الذهبيَّة للشَّبيبَة المغربيَّة.
المؤلف: العلاّمة الفقيه المحدِّث محمّد بن الحسن الحَجْوي الفاسي رحمه الله (ت 1376هـ) صاحب كتاب «الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي».
توطئة: في مقالي السابق في هذه الجريدة الغرَّاء؛ والذي خصَّصته لكِتاب «الدفاعُ عن الصَّحيحين دفاعٌ عن الإسلام» للعلاّمة الحَجْوي رحمه الله؛ نقلتُ نُتفةً يسيرةً من وصيّته الذهبية للشبيبة المغربية، ووعدتُ عقبها القراءَ الفُضلاء بإفرادها بالنشر كاملةً لنفاستها؛ وغزارة فوائدها؛ وعظمة عوائدها؛ وكثرة فرائدها…
واعلم أخي القارئ الفاضل أن هذه الوصية ليست مُؤلَّفاً مُستقلاً للمؤلف رحمه الله، إنما هي سَوانحُ جادت بها قريحته عند ترجمته لنفسه في كتابه السّامي «الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي»، وأما العنوان فمنِّي وقد استوحيتُه من الوصيّة كما سيظهر لك بعدُ، ثم إني هممت بالتعليق على فقراتها زيادة في التَّوضيح والإيضاح، فأبَت الوصية ذلك لاستغنائها عن مثل ذلك، فما على القارئ الكريم إلا أن يقرأها قراءة تأمّل وتدبّر وتفكّر، مع استحضار قول المؤلف رحمه الله في ثنايا وصيته:
«فإذا اشتغلوا بهذا، وعملوا بأصول هذه الوصية، فإنهم ينهضون بأمَّتهم وملَّتهم، ويكونون قد خدموا وطنهم حقًّا لا تشدقًا»، وقوله: «وإنِّي أُعيذهم بالله من تضييع نصيحتي هذه»، وقوله: «وإلى الله أضرع أن يحقق رجائي فيكم، وأن يحفظكم يا أولادي وإخواني».
نص الوصية:
قال العلامة الحَجْوي رحمه الله: «وإني لأرجو أن يكون في الشبيبة المغربية -التي وقفت نفسي على ثقافتها، والأخذ بناصِرها(1) ونفعها- من يقوم بنهضة مغربية صادقة، حتى يُناسب مستقبلُهم ماضي أسلافهم، وتكون أيامهم عصرًا ذهبيّاً للمغرب تحيي المجد الغابر، والفضل الداثر، وللتاريخ أدوار كأدوار الموشحات، فإذا جاء الإبَّانُ أعادها.
وأوصي الشبيبةَ بتوجيه وِجهتهم نحو رُقي البلاد من حيث الأخلاق الكاملة، وثقافة الأفكار بالعلوم النافعة، ونشر محاسن الدِّين الحنيف، والكشف عن أسراره، وإزالة غشاوة الجهل به عن العقول، حتى يقف الناسُ على معنى الدِّين الحنيف، وينبذوا كل الأوهام التي خلطت به من أعدائه، فكلُّ نهضة لا تُؤسَّس على مبادئ الدين الصحيح والأخلاق الفاضلة تكون خلوًا من الفضيلة، وخطرًا عاماً على نفسه، كما أنه وبال على بقية أنواع الحيوان، فلولا الدين، لكانت الشهوة التي سلطته على الحيوان والجماد والنبات هي عينها تسلط بعضها على بعض، فالفضل كل الفضل في عمارة الكون ورقيّ النوع البشريّ هو للدين والمبعوثين به، ولولا الأديان والرسل عليهم السلام، ما وصل البشر لهذا الرقي الذي هو عليه، ولما كان إلّا وحشًا ضاريًا مفسدًا شريرًا في الأغلب من أفراده، ولم تزل الترقيات العصرية، والاكتشافات الفنية معجزة دالّة على صحة الأديان وصدق المرسلين، فقد انكشف لنا به سرُّ حرمة الخمر والخنزير، وسر غسل الإناء سبعًا من ولوغ الكلب، وأسرار حرمة الزنى، وإباحة تعدد الزوجات وغير ذلك، وها نحن نرى أميركا تُشدِّد في حرمة تعاطي الخمر بنحو ما كان عند مسلمي الصدر الأول إلى غير ذلك، والحياة بدون زمام الدِّين فساد وخراب، وشواهد أثر ذلك منذ نشأت الدنيا إلى الآن، ولن تجد لسنة الله تبديلًا.
فعليهم بإنهاض قومهم ووطنهم اقتصاديّاً، بإرشادٍ إلى استخراج كنوزه العظيمة التي اختلطت بأرضه ومائه، وبثِّ روح جديدة في التجارة والزراعة والصنائع وكافة أنواع الاقتصاد، حارِبوا الفقرَ بالاقتصاد والاختصار من العوائد التي تستنزف الأموال، وباستنتاج الخيرات من الأرض والمياه، وبإحياء الصناعات الوطنية والنهوض بها إلى مستوى الرقي الجديد، فبالاقتصاد أصبح العالم مستعمرةً إسرائيليةً.
واستعينوا على ذلك بتهذيب الأخلاق، فالأخلاق أساس كل نجاح، وفساد الأخلاق هو عَين الإخفاق، وليتجنبوا المجادلات الدينية، والاختلافات المذهبية فذلك شيء فُرغ منه، فإيَّاهم وإيَّاي من ضياع الوقت النفيس إلّا فيما يفيد، حذارٍ حذارٍ من المجادلات العقيمة الدينية التي لا تأتي بفائدة، وليتجنبوا كُلَّ سِيَاسَةٍ فإنها مُفسدة للأعمال، مُعرقلة للمصالح.
وليجتهدوا أن يتخرَّج منهم مدرسون ماهرون يحاربون الأخلاق التي أوجبت انحطاطنا في الهيئة العالمية، ويحاربون تطرف الأفكار التي أضاعت وقتنا، وليحاربوا عدوَّ الإسلام الألد داءَ الأميّة حتى يصير جل أمَّتهم يقرأ ويكتب ويحسب، ويُعرب عن ضميره بعبارة صحيحة عربية بدوًا وحضرًا، كما كان نبينا عليه السلام يحاربها وأصحابُه بعده، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وإن حاجة المغرب إلى المدرسين من أبناء جنسه فوق كل حاجة، وذلك هو الماء الذي يقطر في حلقوم المحتضر، وينشروا العلم الابتدائي أولًا في جميع أصقاع بلادهم العزيزة بين إخوانهم، وليتطوعوا في ذلك ما أمكنهم، وليعينوا من ظهرت أهليته على تحصيل العلوم العالية عربية وأوربية: من طب وهندسة وطبيعيات وحقوق ومكانيكيات وغير ذلك.
فإذا اشتغلوا بهذا، وعملوا بأصول هذه الوصية، فإنهم ينهضون بأمَّتهم وملَّتهم، ويكونون قد خدموا وطنهم حقًّا لا تشدقًا.
وإياهم والاشتغال بسفاسف الأمور كتغيير الزي، وتكثير الشغب بلا طائل، فإني أربأ بهم أن يتركوا زيَّ قومهم في ظفرة، وأن ينفروا منهم آباءهم ويلصقوا التهمة بهم في دينهم بيدهم.
فما أجبن قومًا تستَّروا وراء لباسٍ غير لباسهم خجلًا من جنسيتهم، وما أرذل قومًا أرادوا التشبه بمن يعتقد انحطاطهم عنه، فليجتهدوا أن يكونوا قادة لأمة، ويجروها وراءهم تهذيبًا وتعليمًا لا أن ينفروها منهم.
وليكونوا مثال العفة والأخلاق الفاضلة، وأولها صدق اللهجة، وتقديم المصالح العامة على الخاصة، ونزاهة اليد واللسان، وحسم مادة الباطل والرِّشَى، وترك الشبهات فضلًا عن المحرمات، وكل أمة هضمت خاصّتُها حقوقَ عامّتِها، كانت غنمًا مهزولة في ليلة شاتية لا يرجى لمستقبلها حياة، وليكونوا مثالًا للجد والنشاط والثبات في الأعمال والنزاهة، والبراعة والدهاء، وإنِّي أعيذهم بالله من تضييع نصيحتي هذه.
قد رشحوك لأمر لو فطنت له — فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
أوصاني بهذا البيت شيخي كنون كتابة ومشافهة رحمه الله مرارًا.
وإلى الله أضرع أن يحقق رجائي فيكم، وأن يحفظكم يا أولادي وإخواني ممَّا أصاب غيركم من سموم المعتقدات الفاسدة، وتطرف الأفكار، وأن يحميكم من ضِدِّيَّة(2) الدين، وأن يجعلكم شبيبة مغربية حقًّا، محافظة على مجدها وقوميتها وذاتيتها، حرة التفكير ضمن دائرة الأدب والدين الصحيح الخالي من الخرافات والتخرصات، محافظة على شريعتها السمحة الحقة العظيمة، عارفة بتطبيقها على الأحوال الوقتية المناسبة حتى تكونوا حماتها وحماة الوطن العزيز واللغة العربية الشريفة، معتدلين في أمركم كله، مستقيمين على المهْيَعِ(3) القويم، متمسكين بسنة سيد المرسلين، وخلفائه الراشدين المرشدين».اهـ
رحم الله العلامة الحَجْوي رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا، ووفَّق وأعانَ طلبة العلم والدعاة على تمثُّل الوصيَّة وتجسيدها واقعيا آمين، {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ}.
محبكم أبو معاوية طيب بن عبد الكريم العزاوي غفر الله له ولوالديه وللمسلمين آمين.
____________________
1) أخذَ بنَاصِره: أمَدَّه بالعَوْن، ساعده.
2) ضِدّيّة (اسم): الجمع: ضِدِّيَّات، اسم مؤنَّث منسوب إلى ضِدّ، مصدر صناعيّ من ضِدّ: حالة من التنافر والاختلاف بين الأشياء.
(3) المَهْيَعُ من الطُّرق: البَيِّن الواسع، والجمع: مَهايعُ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *