منذ أن ظهر علم الأعصاب في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1970م كما هي صورته الحديثة اليوم وسؤال العقل والوعي يحتل منطقة عظمى من اهتمامات العلماء بل والساسة، بل والعسكريين، ولن أكون معنيا هنا بكشف الستار عن طبيعة العقل الذي كان ولا يزال موضوعا مهما في الكتابات الفكرية، إنما سأجنح إلى طرح أسئلة متعلقة بطبيعة الدماغ ومقدمات علاقته بالروح والعقل.
يعد الدماغ اليوم أحد أغرب الأعضاء البشرية الباردة، وهو أقرب إلى أن يكون عالما مصغرا للكون في كثرة خلاياه وأنواع عمله وطبقات وعيه، وهو بحق تحفة ولطيفة من لطائف الخلق الإلهي الرائعة، فالعلماء اليوم يعرفون أنه مع كل اكتشاف علمي متعلق بالدماغ تزداد حيرتهم فيه وتتوسع دائرة جهلهم به.
هل الدماغ آلة ذاتية الوعي؟ سؤال يطرحه رواد علم أعصاب الدماغ، ويعد القول بأنه آلة غير ذاتية الوعي والعمل مولدا لأسئلة أخرى أعمق وأخطر فن لم يكن الدماغ ذاتي الوعي فما هي الجهة الواعية التي تستعمله؟
ظهر في السنوات القريبة امتدادا لبحوث قديمة ترجع إلى زمن فلاسفة كيميائيين من عصر النهضة الأوروبية طائفة من علماء الأعصاب المتخصصين في الدماغ تتحدث عن إعادة للنظر في حقيقة الدماغ، ولعل أول مراجعاتهم كانت في التأكيد على أن الدماغ الإنساني لا يصله بدماغ القرود واصل من قريب ولا من بعيد، فإن بينهما نحو 200 فارق مؤثر، وهو ما يثير استشكالات معقولة في صحة نظرية دارون، فعلى ما حققوه، تكون النظرية ساقطة بلا تردد مع فوارق أخرى مبطلة للنظرية أو ما سيتبقى منها.
يرى هؤلاء العلماء أن الروح هي الجهة الواعية الفاعلة، وأنها المتصرفة في الدماغ بطريقة غير مفهومة إلى الآن، وهو ما يحاولون الكشف عنه مع شواهد دافعة إلى مزيد بحث وتأمل، وهو ما لا يقبله علماء أعصاب آخرون ذوو ميولات مادية إلحادية.
من بين عجائب الدماغ أنه لا يحتاج إلا لنحو 20 واطا للعمل، وهو أمر صادم ومحير، وليس يفهم العلماء إلى اليوم كيف يستطيع الدماغ أن يحول الطاقة إلى تيار كهربائي، لكن الأشد صدمة للعقل الملحد هو أن في الدماغ مائة مليار خلية عصبية، بقدر عدد النجوم في الكون على ما يقوله الفلكيون، لكل واحدة منها 50 خلية أخرى تقوم بدور الحماية لها، وكل خلية عصبية لها نحو سبعة آلاف إمكانية وصلة مع غيرها، بمجموع طول خيوط ربط تصل إلى 160 ألف كيلومتر، أي ضعف محيط الأرض تقريبا، وهي خلايا تخزن معلومات يحتاج لتخزين قدر عشر غلظ شعرة من المعلومات المخزنة عليها إلى نحو 25 ألف فيلم، وإلى 15 مرآب طائرة أيرباس 380 من المخزنات!
كل هذه الأرقام العلمية تنتج الدوار الشديد، ولا تزال أسباب هذا الدوار في تزايد، فكلما توسعت دائرة الاكتشافات كلما ازداد جهل الإنسان… بنفسه.
اشتهر تقسيم الدماغ إلى ثلاثة أجزاء مراعاة لسياق نظرية دارون، بدءا من دماغ الزواحف وانتهاء بالدماغ العاقل، وهي اليوم خرافة باتفاق المتخصصين، فكل هذه الأجزاء تخلق كلها في وقت واحد في جمجمة الجنين، ولا تعمل إحداها بدون وجود الأجزاء الأخرى. فما الذي تعنيه كل هذه الأرقام والمعلومات؟ وما فائدة إثارة مثل هذه المعطيات؟
الجواب كامن في مقتضيات وسياق المشروع الكبير الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية بكل مستوياتها السياسية والفكرية والتقنية، مشروع صناعة دماغ آلي يحاكي الدماغ البشري، بتمويل عسكري تارة وبتبني من طرف مؤسسات تجارية كبرى مثل غوغل، ومعالم هذا المشروع عندها ظاهر في خصائص محرك بحثها الذكي…
بإشراف من الرئيس الأمريكي السابق أوباما، واشتغال علماء ومؤسسات كبرى بدأ العمل في محاكاة الدماغ البشري، وهو أمر طرح أسئلة أخلاقية وأمنية وفكرية من العيار الثقيل، هل يمكن أن نستخلص الذكريات والتجارب والمؤهلات من دماغ شخص ووضعها على حاسوب قوي؟ هل يمكن أن نتحول إلى مخلوقات طاقية معلوماتية نجوب الفضاء عبر الأسلاك والمخزنات المحمولة وقنوات اللايزر؟
أسئلة خطيرة لها أجوبة مخيفة على ألسنة علماء أمريكيين مجانين من الطراز الأول، وضعت تحت تصرفهم جيوش من الباحثين وتمويلات بالمليارات… فالقوم سكارى بخمر الجنون والإلحاد… لا يعرفون أن وراء الدماغ مخلوقا آخر ألطف وأعجب… هو المسؤول عن تسييره واستعماله، وعدم اعتباره يفسد التصور والحكم… مخلوق نعرفه جيدا.. لكنا لا نعلم عنه إلى وجوده وبعض آثاره… هو الذي قال الله فيه: “وما أوتيتم من العلم إلا قليلا”.