إيمان الإنسان يزيد وينقص، وقلب العبد يتقلب بين الطاعة والمعصية، بين الخير والشر، وهذه طبيعة بشرية وابتلاء من الله تعالى ليختبره بالمصائب تارة وبالنعم أخرى فينظر هل يشكر أم يكفر؟ هل يصبر أم يقنط؟ “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ” الأنبياء:35، وفي هذا الابتلاء تمحيص لقلوب العباد، “ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ۖ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ ۗ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ۗ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ ۖ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ۗ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ۖ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ “آل عمران: 154.
وإنما مردُّ هذا التقاذف بين النقيضين والتقلب بين الضدين، إلى كون القلب على حالين:
إما بيت لتلقي السداد الرباني والحكمة الإلهية على يد الملَك الموكل به، “يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ” البقرة: 269، “…قال مالك: وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله، وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله… ” ابن كثير، 1/701.
وإما وعاء لاستيعاب وسوسة الشيطان، ومستقر لغواته وهمزه ونزغه وتخويفه، “الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ” البقرة: 268، ويُصدّق ذلك كله، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنْ لِلشَّيْطَانِ لَلَمَّةً بِابْنِ آدَمَ، وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ. فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ مِنَ الشَّيْطَانِ” أحمد شاكر، عمدة التفسير:1/325.
والمعنى المستفاد من كون أن للقلب بيتان يأوي لأحدهما ملَك وينزل بالآخر شيطان، هو تنبيه العبد على لزوم الذكر وقراءة القرآن بتدبر وإمعان، حتى تجري وظيفة الملَك ويستثب أمره فيه، فلا يبق للشيطان منه حظ ولا نصيب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم، “ما من آدمي إلا لقلبه بيتان: في أحدهما الملك، وفي الآخر الشيطان، فإذا ذكر الله خنس، وإن لم يذكر الله وضع الشيطان منقاره في قلبه ووسوس له” الشوكاني، تحفة الذاكرين، ص: 20.
فإن حدث ووقع العكس من إنسان لاه غافل عن ذكر الله، هاجر لكتابه، منساق وراء شهواته، اغتنم الشيطان حال ضعفه وانتهز وضع إهماله، فيسود سلطانه في قلبه ويتمكن شره منه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “الشَّيطانُ جاثمٌ على قلبِ ابنِ آدمَ، فإذا ذَكَرَ اللَّهَ خنسَ وإذا غفلَ وَسوَسَ” تخريج مشكاة المصابيح:2221.
ومن وسائل الوقاية من استقرار الشيطان في القلب، زيادة على لزوم الذكر وقراءة القرآن وتدبره، يرشدنا الله تعالى في كتابه العزيز إلى اللجوء إليه عز وجل والاستعاذة به من شر كل وسواس خناس يريد إلقاء الشك والريب في القلوب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقولُ: مَن خلَق كذا، مَن خلَق كذا، حتى يقولَ: مَن خلَق ربَّك؟ فإذا بلَغه فلْيَستَعِذْ باللهِ ولْيَنتَه” البخاري: 3276، وبث الحزن والهم في الصدور، “قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَٰهِ النَّاسِ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ” الناس.
فالله تعالى هو الملجأ والملاذ من كل بلاء وهو الحفيظ والحسيب من كل شر، يقول الله تعالى على لسان امرأة عمران: “فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ” آل عمران: 36، جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من مولودٍ يولدُ إلا نَخَسَه الشيطانُ، فيستهلُّ صارخًا من نخسةِ الشيطانِ، إلا ابنَ مريمَ وأمَّه، ثم قال أبو هريرةَ: إقرؤا إن شئتم: “وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ” مسلم: 2366.
وروح القدس جبريل عليه السلام ينزل بوحي السماء على قلب الرسل والأنبياء، فيلقي قول الله عز وجل في صدورهم وحيا صادقا ونورا ساطعا، “وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ” الشعراء: 192-195، لأن قلوبهم أنقى قلوب الخلق وأفئدتهم أصفى أفئدة الناس، استقرت على الفطرة السليمة وتهيأت لاستقبال أمر الله تعالى وتبليغه، ومن وظائف الملَك، في هذا السياق، مهمة تطهير القلب بالمعنى وبالحس معا كما وقع في حادثة الشرح، “أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ” الشرح:1-4.
يفسرها حديث أنس بن مالك “أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ أتاهُ جبريلُ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ وَهوَ يلعَبُ معَ الغلمانِ، فأخذَهُ فصرعَهُ فشقَّ عن قلبِهِ، فاستَخرجَ القلبَ، فاستَخرجَ منهُ علَقةً، فقال: هذا حظُّ الشَّيطانِ منكَ، ثمَّ غسلَهُ في طَستٍ من ذَهَبٍ بماءِ زمزمَ، ثمَّ لأَمَهُ، ثمَّ أعادَهُ في مَكانِهِ، وجاءَ الغِلمانُ يسعَونَ إلى أمِّهِ (يَعني ظئرَهُ) فقالوا: إنَّ محمَّدًا قد قُتِلَ، فاستَقبلوهُ وَهوَ مُنتقعُ اللَّونِ، قالَ أنسٌ: وقد كنتُ أرى أثرَ ذلِكَ المِخيَط في صدرِهِ” مسلم: 162.
اللهم تول حفظ قلوبنا من شر كل شيطان مريد وأوكل بها ملائكة رحمتك.
والحمد لله رب العالمين.