سلسلة التوحيد عند الصوفية ( الحلقة الأولى ) : أبو محمد عادل خزرون التطواني

إنّ المتأمل في أحوال الأمة الإسلامية يجد البدع والأهواء أمراض معدية، وآفات مهلكة، لا زالت تقوّض أركان السنّة الغراء، وتحدث شرخاً في دين الأمّة الإسلامية، بل تفرّق وحدتها، وتشتّت اجتماعها، وتهدم بنيانها.
ولذا جاء النهي والشديد، والتحذير والوعيد، من ركوب صهوة البدع والضلالات لما لها من عظيم الأثر، وجسيم الخطر، على الفرد والأمة.
ومن تلكم البدع التي ضربت بأطنابها وألقت بضلالها على الأمة الإسلامية منذ قرون خلت، ولا تزال تواصل زحفها في المجتمعات الإسلامية بل والغربية، بدعة التصوّف التي كان ابتداؤها غلو في الزهد والتعبّد، ثم ارتقى الحال بأصحابها فخلطوا دينهم بلبس الرقاع واعتقادهم وحدة الوجود والحلول والاتحاد والغلو في الأولياء: حيث جعلوا لشيوخهم مقاماً رفيعاً، واعتقدوا فيهم القداسة والولاية والعصمة، بل ربما جعلوا لبعضهم مقاماً أرفع من مقام النبوّة، ومقارباً لمقام الألوهية.
وواكب هذا الاعتقاد الفاسد جملة من الانحرافات العقدية الخطيرة، مثل: دعوى علم الأولياء الغيب، وقدرتهم على المنع والعطاء والإحياء والإماتة، ومن ذلك أيضاً وادعاؤهم أن لهم ما يريدون، وأنهم يقولون للشيء كن فيكون، وأنهم يخرجون من القبور لقضاء الحاجات، وإنهم في قبورهم يأكلون ويشربون وينكحون، وصرف أنواع العبادة إلى قبورهم ودعاءهم لهم من دون الله عز وجل.
فبات مفهوم الولاية الحقيقي غائبا عن الكثيرين كما ورد في الكتاب والسنة وبحسب ما فهمه السلف الصالح، وصار المتبادر إلى الذهن عند سماع كلمة الولي: ذاك الشيخ الذي يتمتم بأحزابه وأوراده، قد تدلت السبحة حول عنقه، وامتدت يداه إلى الناس يقبلونها وهم يكادون يقتتلون على التمسح به.
وآخرون يرون مجذوباً متسكعاً على قارعة الطريق حافي القدمين، متسخ الثياب فيشيع بينهم أنه ولي يعتقدون أن لمثل هذا سر مع الله، وربما رأوا كاهناً أو عرافاً والمضحك أنهم ينادونه بـ “الفْقِيهْ” يخبر الناس بما يغيب عنهم من ماض وحاضر ومستقبل؛ فيظنون فيه الولاية لله مع علمهم بأنه لا يأتي الصلوات ولا يحضر الجماعات، بل تجده حتى لا يستبرئ من البول.
كما يظنون في هؤلاء المنحرفين صنوف العجائب والكرامات وقد غاب عنهم حقيقة الكرامة ومتى يعطاها الإنسان ولماذا، وغفلوا عن حقيقة مهمة ألا وهي استغلال بعض الدجالين وأدعياء الكرامة لهذا الجهل بين الناس، وساعدتهم الجن والشياطين على ذلك ففعلوا بالناس ما كانوا يفعلونه في السابق بأصنام المشركين حين كانوا يتكلمون من خلالها فيظن الناس أن الكلام صادر من أصنامهم ليزداد اعتقادهم وإيمانهم بألوهية أصنامهم. حتى صار من الناس اليوم من يعتقد أن من أولياء الله من يطوي الله لهم الأرض والزمن، حتى إن منهم من يصلي الصلوات الخمس في اليوم الواحد في خمس بقاع مختلفة من العالم. وأن بُعدَ المسافات لا يحول دون اطلاعه على أحوال تلاميذه ورعايته لهم ولو من بعيد. وأن أولياء الله يتفاوتون في المراتب.
فمنهم الوتد.. ومنهم النجب.. ومنهم القطب.. ومنهم الغوث..
وهكذا قامت في أذهان الجهال من الناس مملكة هرمية وهمية من الأقطاب والأبدال والأوتاد، بهم تقوم الأرض والسماء؛ وبهم تقضى الحوائج هم أولياء الله.
وصار كل من ينكر هذا الانحراف في أفهامهم أو يحاول تقويمه اتهموه بأنه عدو للأولياء جاحد لقوله تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62].
أما أن يكون المصلون الذين نراهم كل يوم في المساجد؛ أما التاجر السابق إلى الصدقات وإيتاء الفقراء؛ أما المجاهد الذي يرابط في سبيل الله؛ فهؤلاء لا تعنيهم الولاية ولا علاقة لهم بهذه الآية!
والأخبار عنهم في ذلك مستفيضة، يعلمها كل من طالع كتبهم وكتب التاريخ والتراجم، مستخلصا بمطالعته هاته فكرة واحدة ألا وهي “أن التصوف ما حلَّ بمجتمع ما إلا وحلّ معه الهلاك والبوار والكساد والفساد والأمية والجهل”، إلى غير ذلك من المفاسد المردية، والآفات المهلكة والواقع يشهد بذلك.
ولأجل هذا وددت أن أضع بين يدي القارئ خلاصة ما عليه هذه الفرقة من ضلال وبدع وشطحات وغلو في الأولياء، ضمن حلقات متتالية، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحي من حيّ عن بيّنة.
والله أسأل العون والقبول والسداد إنه ولي ذلك والقادر عليه.

1- معنى الولي والولاية في اللغة:
جاءت هذه الكلمة بمعانٍ عديدة، منها:
– الولي هو: الناصر، وقيل: المتولي لأمور العالم، والخلائق القائم بها، ومن أَسمائه عز وجل: الوالي، وهو مالِكُ الأَشياء جميعها، المُتَصَرِّف فيها.
والوَلاية والوِلاية: النُصرة، يقال: هم عليَّ وَلايةٌ أَي: مجتمعون في النُّصرة.
والوَلِيُّ: وليُّ اليتيم الذي يلي أَمره، ويقوم بكِفايته.
ووَليُّ المرأَةِ: الذي يلي عقد النكاح عليها، ولا يدعها تستبدّ بعقد النكاح دونه( ).
– الوَليُ: القرب، والدنو، والمطر بعد المطر، وُليت الأرض بالضم.
والوَليُّ: الإسم منه والمحب والصديق والنصير، ووَلي الشيء وعليه وِلايةً ووَلاية أو هي المصدر، وبالكسر: الخُطّة، والإمارة، والسلطان، وتوالى: تتابع( ).
– الولي: ضد العدو( ).
والمراد من هذه المعاني، أن الولي يراد به في اللغة: القرب والدنو والمحبة والنصرة.
والولي الإسم منه المحب والصديق والنصير والولاية الإمارة والسلطان والمولى والمعتق والمعتق والصاحب والقريب والولي والرب والناصر والمحب.
عرف شيخ الإسلام ابن تيمية الولي والولاية بقوله:
الولي: مشتق من الولاء، وهو القرب ، كما أن العَدُوَّ من العَدْو وهو البعد ، فولي الله من والاه بالموافقة له في محبوباته ومرضياته، وتقرب إليه بما أمر به من طاعاته.اهـ
وقال رحمه الله: والولاية ضد العداوة، وأصل الولاية: المحبة والقرب. وأصل العداوة: البغض والبعد، وقد قيل: إن الولي سُمِّي ولياً من موالاته للطاعات، أي: يقرُب منه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض، فلأولى رجلٍ ذكرٍ) ، أي لأقرب رجل إلى الميت، وأكَّده بلفظ (الذكر) ليبين أنه حكم يختص بالذكور ولا يشترك فيها الذكور والإناث، كما قال في الزكاة: (فابن لبون ذكر) .
فإذا كان ولي الله هو الموافقَ المتابعَ له فيما يحبه ويرضاه، ويبغضه ويسخطه، ويأمر به وينهى عنه، كان المعادي لوليه معادياً له، كما قال تعالى: (لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ) [الممتحنة:1]، فمن عادى أولياء الله فقد عاداه، ومن عاداه فقد حاربه، فلهذا قال: (من عادى لي ولياً، فقد بارزني بالمحاربة) .اهـ.
ويقول الإمام الشَّوْكَانِيُّ في تَعرِيفهِ للولِي: الْوَلِيُّ فِي اللُّغَةِ: الْقَرِيبُ . وَالْمُرَادُ بِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ: خُلَّصُ الْمُؤْمِنِينَ، لأَِنَّهُمْ قَرُبُوا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ.
وفي تعريفه للولاية قال: والولاية ضد العداوة وأصل الولاية المحبة والتقرب كما ذكره أهل اللغة وأصل العداوة البغض والبعد . فهذا من حيث اللغة.
إلى هنا انتهت حلقت هذا العدد وفي الحلقة القادمة سنعرض بحول الله وقوته إلى تعريف الولي من جهة الاصطلاح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *