من خصائص اللغة العربية..

لم يكتف علماؤنا القدامى بالكلام عن فضيلة العربية، بل تطرقوا إلى الحديث عن عدد من الخصائص التي تجعلها من أفضل اللغات -وقد أيدهم فيها المعاصرون- وأهمها:

1. التخفيف
من مظاهر التخفيف البارزة في العربية غلبة الأصول الثلاثية، وقد أشار إليها ابن جني بقوله: “إن الأصول ثلاثة: ثلاثي ورباعي وخماسي، فأكثرها استعمالا وأعدلها تركيبا الثلاثي وذلك لأنه حرف يبتدأ به وحرف يُحشى به وحرف يوقف عليه”، ثم يقول مبينا الحكمة من غلبة الثلاثي: “فتمكُّن الثلاثي إنما هو لقلة حروفه” الخصائص 1/65.
وإن مقارنة يسيرة بين العربية وغيرها من اللغات الأوربية لتظهر لنا صحة هذه المقولة، ففي هذه اللغات تسود الكلمات الطوال ذوات العدد؛ فمثلا:
كلمة مبنى ترجمتها في اللغة الفرنسية Bâtiment وفي الإنجليزية Building.
وكلمة تسلية تقابلها في الفرنسية Divertissement وفي الإنجليزية Entertainment.
ومكتبة تقابلها في الفرنسية Bibliothèque وفي الإنجيزية Library
و”جد” تقابلها في الفرنسية Le grand-père وفي الإنجليزية Grand-father
وأم تقابلها في الفرنسية La mère وفي الإنجليزية Mother
فنلاحظ أن الكلمات القصيرة في العربية ذوات الحرفين أو الثلاثة أو الأربعة تقابلها كلمات طويلة في اللغات الأوربية قد تصل إلى عشرة أحرف أو تزيد، ومن المعروف أن أقصى ما تصل إليه الكلمات العربية بالزيادة سبعة أحرف في الأسماء كما في استخراج واستعمار وستة في الأفعال كما في استخرج واستعمر، في حين أن الكلمات في اللغات الأوربية قد تصل إلى خمسة عشر حرفًا أو أكثر كما في Internationalisme بمعنى الدولية وIncomprehensible بمعنى غامض، ولا شك أن لهذه الخاصية فوائد جمة في العربية ففيها توفير للوقت والجهد والمال؛ فالنطق بالكلمات الصغيرة أخف على اللسان وأسرع في الوقت وأخصر في الكتابة من الكلمات الطويلة.
وتعد الجذور الثلاثية سمة من سمات اللغات السامية عمومًا، ولكن أكثر الساميات اليوم غير مستعمل، إلا نادرًا، وهذا القليل النادر غير مطابق في أكثره لقواعد الساميات القديمة، فصح أن تعد هذه سمة من سمات العربية.

2- سعة المفردات
والعرب يعبرون عن الشيء الواحد بأسماء كثيرة، يقول ابن فارس: “ومما لا يمكن نقله ألبتة أوصاف السيف والأسد والرمح وغير ذلك من الأسماء المترادفة، ومعروف أن العجم لا تعرف للأسد أسماء غير واحد . فأما نحن فنخرج له خمسين ومائة اسم” الصاحبي ص:21.
ويقول ابن فارس أيضًا: “وحدثني أحمد بن محمد بن بُندار قال: سمعت أبا عبد الله بن خالويه الهمذاني يقول: جمعت للأسد خمسمائة اسم وللحية مائتين”
وقد كتب الفيروز آبادي من بعد كتابًا في أسماء العسل ذكر فيه أكثر من ثمانين اسمًا، وقرر مع ذلك أنه لم يستوعبها جميعها. ويرى الفيروز آبادي أنه يوجد للسيف ألف اسم على الأقل.
وهذا الذي يصرح به ابن فارس والفيروزآبادي يقرره علماء اللغة المعاصرون من الشرق والغرب إذ يذكر الدكتور علي عبد الواحد وافي -وكان عضوًا بالمجمع اللغوي بالقاهرةـ أن الأستاذ دوهــــامر جمع المفردات العربية المتصلة بالجَمل وشئونه، فوصلت إلى أكثر من خمسة آلاف وستمائة وأربع وأربعين” (فقه اللغة 169).
ويقول المستشرق الألماني نولدكه: “إنه لابد أن يزداد تعجب المرء من وفرة مفردات اللغة العربية، عندما يعرف أن علاقات المعيشة لدى العرب بسيطة جدًا، ولكنهم في داخل هذه الدائرة يرمزون للفرق الدقيق في المعنى بكلمة خاصة… والعربية الكلاسكية ليست غنية فقط بالمفردات ولكنها غنية أيضًا بالصيغ النحوية” (نقلا عن اللغة العربية لنذير حمدان 133).
وترجع وفرة المفردات في اللغة العربية إلى خاصية أخرى ثالثة.

3- وهي الاشتقاق تلك الخاصية التي تتيح للغة العربية إنتاج عدد كبير من الكلمات من جذر واحد مثل اشتقاق كاتب ومكتوب ومكتب ومكتبة وكتاب ومكاتبة.. إلخ، ويسمي الدكتور نبيل علي هذه الظاهرة بالفائض اللغوي ويشبهها بالشجرة ذات الجذور القليلة والأوراق الكثيرة؛ لذا فهي توصف بأنها شجرة ثقيلة القاع، فرغم صغر نواة المعجم (أقل من عشرة آلاف جذر) تتعدد المفردات بصورة هائلة وذلك بفضل الإنتاجية الصرفية العالية. وتقدر قيمة هذه الإنتاجية بقسمة عدد كلمات المعجم المشتقة على عدد الصيغ الصرفية، وهي لا تقل في المتوسط عن 300 كلمة لكل صيغة، وهي نسبة عالية حتمًا إذا ما قورنت بإنتاجية قواعد تكوين الكلمات في اللغات الأخرى”اللغة العربية والحاسوب 286.
والقيمة العلمية لهذه الخاصية أنها تعزز من قدرة العربية على الوفاء بالمتطلبات العلمية الحديثة ولا سيما صياغة المصطلحات وتوليد الألفاظ الجديدة والبرمجة الآلية، ولعله من المفارقات العجيبة أن نجد العربي القديم يضع للجمل والسيف مئات الأسماء، ثم نتحير نحن اليوم في وضع بضعة أسماء لمخترعات حديثة مثل المذياع والتلفاز والحاسوب وغيرها.

4. الإعراب والتمييز بين المعاني بالحركات وغيرها
ويرى ابن فارس أن من العلوم الجليلة التي اختصت بها العرب الإعراب الذي هو الفارق بين المعاني المتكافئة في اللفظ.. ولولاه ما ميز فاعل من مفعول ولا مضاف من منصوب ولا تعجب من استفهام ولا صدر من مصدر ولا نعت من توكيد. الصاحبي ص:76.
كما يقرر في موضع آخر أن للعرب في ذلك ما ليس لغيرهم؛ فهم يفرقون بالحركات وغيرها بين المعاني يقولون: مِفتح للآلة التي يفتح بها، ومَفتح لموضع الفتح، ومِقص لآلة القص ومَقص للموضع الذي يكون فيه القص.
ويقولون: امرأة طاهر من الحيض؛ لأن الرجل لا يشركها في الحيض، وطاهرة من العيوب؛ لأن الرجل يشركها في هذه الطهارة. وكذلك قاعد من الحَبَل وقاعدة من القعود.
وتقول: كم رجلا رأيت؟ في الاستخبار. وكم رجل رأيت في الخبر يراد به التكثير.
وفي هذا الكلام من ابن فارس إشارة هامة إلى دور الحركات عمومًا في التمييز بين المعاني المختلفة ليس فقط على مستوى الإعراب ولكن أيضًا على مستوى البنية المفردة.
وقد أشار علماء اللغة المعاصرون إلى هذه الخاصية للغة العربية، فيقول الدكتور علي عبد الواحد وافي اعتمادًا على أقوال المستشرق رينان:” تمتاز اللغة العربية في شئون التنظيم بتلك القواعد الدقيقة التي اشتهرت باسم قواعد الإعراب والتي يتمثل معظمها في أصوات مد قصيرة، تلحق أواخر الكلمات لتدل على وظيفة الكلمة في العبارة وعلاقتها بما عداها من عناصر الجملة.
وهذا النظام لا يوجد له نظير في أية أخت من أخواتها السامية، اللهم إلا بعض آثار ضئيلة بدائية في العبرية والآرامية والحبشية” فقه اللغة ص:210.
والقيمة العلمية لهذه الخاصية أنها تتيح للعربية قدرة هائلة في التعبير عن المعاني والتفنن في الأساليب، وتجعلها أكثر مرونة وتصرفًا في بناء التراكيب.

5. وفرة مخارج الأصوات
أشار ابن فارس إلى اختصاص العربية ببعض الأصوات مثل: الهمزة، والحاء، والطاء، والضاد، يقول عن الهمزة: “والعرب تنفرد بها في عرض الكلام، مثل: قرأ، ولا يكون في شيء من اللغات إلا ابتداء. الصاحبي ص:123-124.
وهذا ما يقرره علماء اللغة المعاصرون أيضًا؛ إذ يذكرون أن العربية أكثر أخواتها احتفاظًا بالأصوات السامية؛ فقد اشتملت على جميع الأصوات التي اشتملت عليها أخواتها السامية، وزادت عليها بأصوات كثيرة لا وجود لها في واحدة منها: الثاء والذال والغين والضاد. فقه اللغة للدكتور وافي ص:164-165.
وقد عني الأستاذ العقاد بهذا الجانب من خواص العربية في كتابه اللغة الشاعرة، فبعد أن أوضح الفرق بين الأبجدية العربية وغيرها من الأبجديات في اللغات الهندية الجرمانية، أو اللغات الطورانية، أو اللغات السامية قال: “وتظل اللغة العربية بعد ذلك أوفر عددًا في أصوات المخارج التي لا تلتبس ولا تتكرر بمجرد الضغط عليها، فليس هناك مخرج صوتي واحد ناقص في الحروف العربية”.
ويراعي العرب في اجتماع الحروف في الكلمة الواحدة وتوزعها وترتيبها فيها حدوث الانسجام الصوتي، فمثلاً: لا تجتمع الزاي مع الظاء والسين والضاد والذال. ولا تجتمع الجيم مع القاف والظاء والطاء والغين والصاد، ولا الحاء مع الهاء، ولا الهاء قبل العين، ولا الخاء قبل الهاء، ولا النون قبل الراء، ولا اللام قبل الشين.
وأصوات العربية ثابتة على مدى العصور والأجيال منذ أربعة عشر قرناً. ولم يُعرف مثل هذا الثبات في لغة من لغات العالم في مثل هذا اليقين والجزم.
وللأصوات في اللغة العربية وظيفة بيانية وقيمة تعبيرية، فالغين تفيد معنى الاستتار والغَيْبة والخفاء كما نلاحظ في: غاب، غار، غاص، غال، غام. والجيم تفيد معنى الجمع: جمع، جُمل، جمد، جمر. وهكذا.
وليست هذه الوظيفة إلا في اللغة العربية، فاللغات اللاتينية مثلاً ليس بين أنواع حروفها مثل هذه الفروق، فلو أن كلمتين اشتركتا في جميع الحروف لما كان ذلك دليلاً على أي اشتراك في المعنى. فالكلمات التالية في الفرنسية مشتركة في أغلب حروفها وأصواتها ولكن ليس بينها أي اشتراك في المعنى مثل Ivre /سكران- Oeuvre /أثر أو تأليف- Ouvre /يفتح- Livre /كتاب- Lèvre /شفة.
والقيمة العلمية لهذه الخاصية أنها تعطي العربية قوة في البيان، ووضوحًا شديدًا في السمع، وجمالا في التعبير، وانسجامًا في التركيب.

6. العروض
قال ابن فارس: “ثم للعرب العروض الذي هو ميزان الشعر، وبه يعرف صحيحه من سقيمه”. الصاحبي ص:77.
وقد أشار غير واحد من المستشرقين إلى اختصاص العربية بعلم العروض وهذه الخاصية في اللغة العربية ظاهرة من تركيب حروفها على حدة، إلى تركيب مفرداتها على حدة، إلى تركيب قواعدها وعباراتها، إلى تركيب أعاريضها وتفعيلاتها في بنية القصيد”. اللغة الشاعرة ص:11.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *