التطاول على مقام العلماء -10- د. يوسف بن محمد مازي

ختمنا حلقة العدد السابق بنصيحة للإمام السبكي ينبغي أن تكتب بماء الذهب، وتنقش على صدور طلبة العلم في كل عصر ومصر، وتعلق على باب كل مسجد أو جامعة أو حلقة من حلق العلم أينما كانت..
فأين الأذان الصاغية يا صاح؟ والقلوب الواعية؟ والأفئدة المتدبرة؟ فلسان حال بعض المسلمين اليوم يشهد بنقيضها.
وطلبة العلم أكثر ما يشتغلون به الأمور الخلافية وأقوال الأقران بعضهم في بعض، وهم للأسف يتلذذون بهذا ويتفكهون به، بل ويجعلونه أكبر همهم في مسيرتهم العلمية، مما فتح الباب على مصراعيه أمام العوام ليدلوا بدلوهم هم أيضا فيما لا يعود على الأمة إلا بالشقاء والضعف والهوان والوهن.
كيف لا يقع ما وقع، والعلماء اليوم لا يحترم بعضهم بعضا؟ فلا تكاد تجد كتابا أو رسالة أو درسا أو محاضرة أو برنامجا في قناة يخلو من نقد أو توجيه لوم، أو سب أو شتم بدعوى مصلحة الدعوة والدين؛ إنه -والله- الشقاء كما قال أحد السلف: «من علامة شقاء الأمة أن تشتغل بنفسها عن أعدائها‌‌‌‌‌» فالأمة اليوم أصبح همها الوحيد هو نفسها، وكأنها لوحدها في الساحة لا أعداء لها؛ فأصبح الكل فيها حاكما يأمر، أو قاضيا يقضي، أو حكما يوجه، أو محللا يفسر… هذا صالح وهذا طالح، هذا سني وهذا مبتدع، هذا ظاهري وهذا مجتهد، هذا سلفي وهذا إخواني… إلى غير ذلك من الأحكام والألقاب التي أصبح يتنابز بها الصغير والكبير من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وما ذلك إلا لضياع القواعد والأحاديث النبوية الشريفة والأصول.
وأما القرآن نفسه فهؤلاء الذين نصبوا أنفسهم حكام الأمة لا تكاد تجد فيهم حافظا لكتاب الله تعالى، وهو يتكلم على عالم أتم حفظ القرآن الكريم قبل سن العاشرة.
سئل في موضوع الحكم بين العلماء العلامة أبو العباس عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الأبياني عن فقيهين من أصحابه وتلامذته، وهما أبو القاسم بن زيد، وسعيد بن ميمون، فقيل له: أيهما أفقه؟ فقال: «إنما يفصل بين عالمين من هو أعلم منهما».
فانظر رحمك الله إلى جواب العلامة في تلميذيه، وهو الشيخ والمعلم الذي تتلمذ على يديه هذان الفقيهان، ولم يستطع أن يتلفظ بكلمة واحدة في حقهما، وانظر إلى نفسك وإلى غيرك ممن يتكلم في رجال هم أعلم منه، أو علموه وتتلمذ على أيديهم؛ فكان كمن قال فيهم الشاعر:
أعلمه الرمايـة كل يـــومٍ فلمّا أشتد ساعده رمانـي
وكم علمته نظم القوافــي فلمّا قـال قافيـة هجــانـي
ولو عرف لهم قدرا لكان أقل ما يمكن أن يقوله في حقهم: هم أعلم مني، ويتغنى بقول الشاعر:
إذا تلاقى الفحول في لجب فكيف حال الغصيص في الوسط
فلا يحق لي أن أتكلم فيهم تأسيا بأبي العباس عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الأبياني، وغيره من العلماء الربانيين الذين يضعون الجنة والنار أمام أعينهم قبل أن يتكلموا بألسنتهم.
تم، والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- «حرمة أهل العلم» ص. 349، لمحمد إسماعيل المقدم.
(2)- «ميزان الاعتدال» (1/111).
(3)- «قاعدة في الجرح والتعديل» ص. 53.
(4)- «طبقات الشافعية» (2/39).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *