من إنتاج الوعي إلى توليد الفكر عبد الرحمان بنويس

ينبغي للمناهج والبرامج الحديثة في التربية والتكوين أن تكون ملاذاً ومتعةً للمعلمين وللمتعلمين، خصوصاً إذا كانت مفعومة بالكتب التي تستهوي الطّلاب، وبالدّروس التي تخدم حياته وتعالج مشكلاته، وتتوافق مع ميولاتهم العقلية والنفسية والعلمية، وألا تُغلب عليها النظرة النظرية، بل أن يكون فيها المدرس مساهما مساعدا، والتلميذ مشاركا وفعالا في البحث عن الحلول التي تتوافق مع حاله قبل مآله، وما ذلك إلا لأن المناهج تمثل مسبار العقول المخططة، ونتيجة عملية تستهدف تربية الفكر وترقية العقول.
ولا يمكن للبرامج التي تكون فارغة من المقررات العلمية الرصينة، والدروس الوظيفية الواقعية أن تُكَوِّن جيلا يفكر في مستقبل نفسه بله بلاده…، وإلا فيمكننا أنتساءل بحرية: لماذا لا تعطي القراءة أكلها في الأقسام الابتدائية أو في الإعدادية أو حتى في المرحلة الثانوية ناهيك عن الجامعية؟
يمكن الإجابة ببساطة وبدون حرج؛ لأن المتعلم لا يقرأ وهو مرتاح الضمير، بل يقرأ وهو في حالة يكون عليها مكرهاً، تجعله كارها للأستاذ أو للكتاب ومن جاء بعدهما…، والقراءة إذا تدرّب عليها التلميذ وهو في سن مبكرة، واعتاد عليها بطلب منه وبشهوة من عقله الكؤود، فإنه سيصبح في شبابه قوة لا مثيل لها ولا نظير، لا من حيث ثقل المفاهيم والمصطلحات التي يحويها فكره، أو الشكل المنهجي الذي يرتديه لسانه، أو في طبيعة تفاعله مع محيطه القريب أو البعيد، وهو الأمر الذي برز على نوع خاص من الأطفال الذين نراهم في شاشات الإبداع الصينية أو الأوروبية…، لأن التعلم والقراءة هناك تكون بالاختيار وليس بالجبر والإكراه.
وقد نقول لمن لازال جليد الحب العلمي يطمئن قلبه “اقرأوا بحرية وتمتعوا في تدبر كتابكم، فإن النّهم في حياضه، والمعنى في عناوينه، والذوق تحس به لما تنتهي من حروفه” وأما أن تُعصر بالكتب قهرا وجبراً فالنتيجة لا تعطي إلا ماءً مالحا لا يصلح للشرب، لأن أرباب المناهج لم يستطيعوا أن يصلوا بالفكرة إلى فؤاد المتعلم، وإلى إعطائه شهوته من الكتب التي تروق وتؤرق سنه، وتقطع عنه عالم الضيع والهوى…
حينما تصبح القراءة هَمَّ الجميع فانتظر عالَماً جديدا بفضل شغف المارة الـمُشاة للقراءة وبالقراءة، وتطلعهم لمعرفة الجديد في مختلف بحار العلم، لغرض واحد وهو جعل الذهن متطلع للانفتاح ومد الجسور بين المعارف، والكتب تحمل خرائط لا يسبر غورها إلاّ الماهر في الحرف المتأمل في الرسم، وهكذا ارتقت أمم بفضل مرافقتها للكتاب، وانتكست أخرى لابتعادها عنه…
لذا فالمفروض في البرامج الدراسية التعليمية أن تخترق قلب المتعلم وهو في راحة من أمره، بل تجعله يتسلط عليه ضمير “الهو” فيجعله يفكر في حل الوضعيات المركبة التي يعجُّ بها المجتمع..، وإذا استطاع ذلك، فمن المنتظر أن يكون هذا التلميذ أو الطالب في قريب مستقبله نافعا يافعا، يخطط لقوله قبل فعله، يبني بالنقد البناء لا بالنقض الفَنَاء، وما ذلك إلا بوسطة التعلم الفعال البنائي النابع من ذات المتعلم، بواسطة المناهج التي رسمت له القواعد الكبرى للتعلم، وترجمتها في البرامج مضمونا، ومكانا، وزمانا، مهارات وأهدافا، وجسدتها المقررات في مكوناتها ومداخلها ودروسها ووضعياتها.
وكلما ازدان المرء علما، كلما ازدان حكمة وثباتا، وهذا الأسلوب قد يتميز به المدرس مع بعض طلابه المراهقين الذي لا يدركون مصيرهم، فيجدون الأستاذ محنكا ثابتا لا يعبث بتصرفات تلاميذه، بل يكون لهم مساعدا ناصحا بجميع مكونات الإحساس التربوية، ومن الحكمة أن يزن المرء علمه بميزان ثباته، ومن الجهل أن يتبين لك ثقب صورة ذلك الإنسان المربي من أول لفظه..
يقول القاضي الأزدي في أبياته الشعرية واصفا حال الصواب بالعلم مع عدمه:
إذا كنت ذا علم وما راك جاهل *** فأعرض، ففي ترك الجواب جواب
وإن لم يصب في القول فاسكت فإنما *** سكوتك عن غير الصواب صواب
إن الرهان الحقيقي لبرامجنا في بعض أحيانها أن تجد فيها وضعيات لا تمس لمجتمعنا بصلة، أو لدروس بعيدة عن عقيدتنا، أو أهداف مستحيلة التحقق، خصوصا إذا كانت محددة في برنامج يغلب عليه طابع المعرفة على ما سواها من المهارة والقيم، أو في سياق مجتمعي وسياسي معقد لا يراعي لا الحال ولا المآل.
المفروض في المناهج أن تكون مناهج محفزة للمدرسين وللمتعلمين، بحيث تمتعه بملذات الكتب التي لها علاقة مباشرة بواقعه، وبمجتمعه، وتهتم بمتطلباته وحاجاته، وما دامت تنظر لواقع يغلب عليه الخيال والطوباوية فإن مصير التعلم سيكون نظيرا وترجمة حقيقية لتلك الوثائق التي قل ما يفقه فيها بعض ممن هي شأنهم أدنى محاورها ناهيك عن أغراضها وأفقها، ونسأل الله ان يزيل غبار التعب عن تعليمنا والله المستعان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *