الرضاعة أمر ورد في القرآن بلا شك، وأن يجعل ذلك موضوعا لخطبة كاملة يورد الشك، شكا لا داعي للبحث عن اليقين فيه… والذي يهم هو المعاني التي ضلت طريقها إلى خطبة الرضاعة الطبيعية في عالم مليء بالمتغيرات والتناقضات التي تجعل الموضوع صيحة في واد؛ وصرخة في بئر؛ ورصاصة في الهواء.
كيف ذلك؟ هذا هو السؤال المثير حقا والأكثر منه إثارة هو جوابه الذي يأتي من خلال نظرة شاملة عن واقع الأمة وعلاقتها بشرع الله عموما، والتي هي علاقة مهترئة مهتزة، إلى درجة الجحود أحيانا عند فئة لا بأس بها؛ منهم يمارس ذلك قصدا ومنهم من على جهل، لأن دعوة المرأة إلى التمسك بالرضاعة الطبيعية لما لها من فوائد طبية ونفسية…؛ كل ذلك بتقدير العليم الحكيم؛ لا ينبغي أن يكون مجتزءا عن دعوتها إلى التمسك بباقي شرائع الله عز وجل، حتى تنسجم مع نفسها وهي تريد أن ترضع ابنها استجابة لما شرع الله عز وجل ودعا إليه وجوبا في قوله تعالى: «والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين»، فتكون مستجيبة لأمر الله في كل أحوالها، وليست ممن يختار بين شرائعه فيفعل هذا ويترك ذاك بلا ضابط ولا ميزان، إلا الهوى والشهوة.
ثم إن الدافع لها لتلتزم بشرع الله في الرضاعة الطبيعية لو توفر عندها لدفعها إلى الالتزام بغير ذلك من الشرائع، وهي التي جعلت التهتك لها دينا وسنة في الحياة إلا من رحم الله، بعد أن آمنت بدين الحداثة والعصرنة والعلمنة، وعلى هذا قس كل المواضيع الحياتية التي لها ارتباط بمعاش الناس، والتي يستغل لها المنبر أو الدين عموما لإيصالها إلى عموم المسلمين وحثهم على فعلها، فإن لم يؤخذ الدين جملة فلن يِؤخذ أقساطا.
كيف يريدون من المرأة أن تعود إلى الرضاعة الطبيعية بقوة الشرع ودعوتهم مليئة بالمتناقضات؛
كيف وقد دعوا المرأة إلى التبرج والسفور، وشغلوها ببرامج الأناقة والجمال، وانقضوا عليها بمنتجات الحفاظ على البشرة واللمعان، وأغروها بالعمل خارج البيت، وحرضوها على الثورة على الأعراف والتقاليد، وهجموا عليها بالأفلام والمسلسلات، فأنى لها وعلى أي اعتبار ستجلس لترضع ابنها ألترهق نفسها ونفسيتها؟ أم لتضيع جمالها ورشاقتها؟ أم لتترك وظيفتها؟ أم لتفوت عليها حلقة من حلقات المسلسل المدبلج.
هل ستبيت هذه المرأة ترضع ابنها ساهرة الليل لتلتحق بعملها منهكة قد أغمض النوم عينها فأين المردودية؟ وما هذا التعذيب؟
وخروجها للعمل -بغير ضوابط- لم يعد أمرا قابلا للتراجع عندكم ولو ضاعت كل المصالح وتحققت كل المفاسد.
ومن جهة أخرى غابت معاني ولطائف كان الأجدر التنبيه عليها بالمناسبة فيكون للخطبة حلاوة ووجاهة واعتبارا، من قبيل تنبيه المرأة إلى أهمية الرضاعة وأثرها في تصريف القيم والأخلاق عن طريق حليب الأم، وأن النساء إذا نشأن في أمية رضع أبناؤهن جهالة وخمولا، لذلك كانوا فيما مضى يحرصون على استرضاع أبنائهم طلبا للشرف والرفعة والقوة والنباهة وغير ذلك.
ولذا كره العلماء استرضاع الكافرة والفاسقة وسيئة الخلق، أو من بها مرض معدٍ لأنه يسري إلى الولد.
واستحبوا أن يختار المرضعةَ الحسنة الخَلْق والخُلُق، فإن الرضاع يُغير الطِبَاع .
والأحسن أن لا يرضعه إلا أمه، لأنه أنفع وأمرأ، وقد يكون ذلك واجباً عليها إذا لم يقبل الطفل ثدي غيرها.
لم لا يدعون الآباء بإزاء الدعوة إلى الرضاعة أن يتحروا الحلال حتى لا يرضع هذا الطفل الحرام، ويذكرون بحديث رسول الله صلة الله عليه وسلم «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ».
ويرون قصة أبي المعالي الجويني أن والده كان في أول الأمر ينسخ بالأجرة، وأنه جمع من ذلك ما اشترى به جارية صالحة، ولم يزل يطعمها من كسب يديه حتى حملت به، فلما ولدته حرص أن لا يطعمه ما فيه أدنى شبهة، ويحكى أنه تلجج يوماً في مجلس مناظرة فقيل له: ما هذا، قال: ما أراها إلا آثار بقاء المصة لمصة مصها من جارية في صغره، لشغل أمه عنه، فقيأه والده وفرغه، قال فهذه اللجلجة من بقايا تلك الآثار.
وخلاصة القول أن دعوتهم للرضاعة الطبيعية تتنافى مع مشروعهم الحداثي ومنهجهم العلماني في تدبير شؤون الحياة، وشرع الله وحدة متناسقة متكاملة لا تعطي أكلها إلا الأخذ بها كاملة، ولا يأخذ بأمر الرضاعة شرعا إلا من أخذ بباقي شرائع الله عز وجل؛ وبه وجب الإعلام.